سبعة أرواح الله ( 6 )
بقلم :
فخرى كرم
تتعدد أوجه تعاملات الروح مع جنسنا البشري، وكل وجه من هذه الأوجه
له سماته التي قد تختلف في ظاهرها وأساليبها عن سمات الأوجه الأخرى حتى إن النظرة
الخارجية لهذه التعاملات تراها من صنع أرواح متعددة، ولكن النظرة العميقة لجوهر
هذه التعاملات تراها ذات جوهر واحد لأنها نابعة من شخص الروح الواحد الذي في كل
تعاملاته - مهما اختلفت وتنوعت - يهدف إلى شيء واحد ألا وهو تتميم مشيئة الله على
الأرض.
ورغم أن الأصل في أقنوم الروح هو أنه غير منظور، وصفاته لا يمكن
وضعها تحت الملاحظة والفحص، إلا أنه في بعض الأحيان يقدم لنا نفسه من خلال بعض
الصور الرمزية والهيئات الجسمية التي تقرب إلى أذهاننا بعضا من صفاته وأعماله،
لعلها تساعد الإنسان في أن يتوافق مع الروح في صفاته ويخضع له في تعاملاته ويشترك
معه في أعماله.
وإن كنا لا نستطيع أن نرى أعماق الروح ونفحص أعماله إلا أننا
نستطيع أن نتدارس سوياً تلك الصور الرمزية التي وردت في الوحي المقدس والتي تشير
إلى الروح المبارك ونحاول أن نستخلص منها ما أراد الله أن نعرفه عن الروح، لعل هذا
يقربنا إلى فهم أعمق لشخصه الكريم وبالتالي إلى توافق أكثر مع أعماله ومشيئته في
حياتنا.
الصورة
الأولى : الحمامة
فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له
فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه» ( مت ۳: ۱۹)
عندما حانت بداية الخدمة العلنية للرب يسوع ذهب إلى يوحنا المعمدان
ليعتمد منه. كان كل النازلين للعماد في نهر الأردن يحركهم دافع واحد هو «الهرب من
الدينونة الآتية» (مت 3 : 17 ) أما هذا الشخص الفريد الكامل في كل طرقه فكان دافعه
للنزول إلى نهر الأردن مختلفاً كل الاختلاف، كان دافعه هو «إكمال كل بر» (مت 3 :
15 ) ولهذا لم يجد الروح لنفسه مستقرأ إلا على هذا الإنسان لأن هناك توافقاً تاماً
بينهما، فالروح هو الحامل لكل البر والعامل لتتميمه على الأرض، وها هو يسوع يقدم
جسده وحياته لتكميل كل بر، ولذلك كان من اللائق أن يعلن الآب على الملأ أنه يسر بهذا
الإنسان، ويعلن الروح أنه وجد لنفسه أخيراً موطئاً في أرض الإنسان، ولهذا انفتحت السماء
ونزل الروح بهيئة جسمية مثل حمامة واستقر عليه.
هل تجد لنفسك موطئاً في حياتي يا
روح الله ؟! هل تجد توافق بين قلبي وقلبك ؟! هل تجد في قلبا يسعى لإكمال كل بر ؟! ليتك
تجد!! |
ولسنا في حاجة هنا إلى تكرار
القول إن روح الله منزه عن الشبه أو الانحصار في هيئة جسمية مهما كانت، ولا ينبغي
أن نظن أن روح الله يشبه الحمامة من قريب أو بعيد، لكن الله لجأ إلى هذه الهيئة
الجسمية لكى يقرب إلى أذهاننا الضعيفة حقائق روحية عظمى سوف تميز خدمة المسيح في الفترة
التالية من حياته، فإذا كان الروح أكبر من أي شبه ولا يحتاج أن يعلن عن نفسه بأية صورة
جسمية لكننا نحن نحتاج إلى هذه الصورة الجسمية لكي نستطيع أن نستوعب تعاملاته
معنا.
لماذا الحمامة ؟!
كان الروح مزمعاً أن يصبغ حياة
يسوع بصبغة معينة ويتمم من خلاله مشيئات خاصة ظلت كامنة في قلب الله ولم تعبر عن
نفسها من قبل لأنه لم يوجد الإناء الإنساني المؤهل لحملها، وتفاصيل هذه الصبغة
والمشيئة كثيرة ومتنوعة ولكن إذا بحثنا لها عن عنوان واحد مختصر يجمل لنا كل
محتوياتها فلن نجد أفضل من « الحمامة» لتكون عنوانا لتلك الحياة الفريدة.
عندما نذكر الحمامة تتوارد على
الذهن فورا معاني الوداعة والهدوء والسلام والمحبة والبساطة والنقاء، وهذه هي المعاني
التي ظهرت في حياة يسوع وخدمته، وكانت واضحة في كل تفاصيل حياته حتى الصليب، لذلك
فالحمامة كانت عنوانا مناسباً لتلك الحياة الكريمة.
لكن قبل أن ننتقل للحديث بالتفصيل
عن كل من هذه المعاني لابد أن نقول هنا إن نزول الروح في المعمودية لم يكن بداية
عهد يسوع بالروح، حاشا، فحياة يسوع كلها منسوجة بالروح القدس منذ كان جنيناً في
أحشاء العذراء، وفي كل حياته كان خاضعاً لقيادة الروح وتعاملاته، فبلاشك أن سرور
الآب به في وقت المعمودية لم يكن وليد اللحظة بل تتويجا لثلاثين سنة من الخضوع
لمشيئة الآب في الظل وبعيدا عن عيون الناس، أما الآن فقد حان وقت خدمته العلنية
للناس لذلك أتى الروح عليه بهيئة منظورة لتكون خدمته علنية ومؤيدة بسلطان من الله،
وللحديث بقية.