موعظة الجبل (7)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون» (مت5: 6)
أقوى احتياج في كيان
الإنسان هو الاحتياج للأكل والشرب، منذ اللحظة الأولى للميلاد نجد المولود يعلن
قدومه إلى العالم بالصراخ طالباً للطعام، ويظل الإنسان طوال أيامه يسعى في دروب
الدنيا بحثاً عما يأكله ويشربه، ان الجوع والعطش هما الدافع الأقوى الذي يدفع
الإنسان للسعي والاجتهاد في الحياة، لأن الانسان إذا لم يجد ما يأكله ويشربه فانه
يفقد الحياة نفسها.
إذا كان هذا حقاً
على الصعيد الطبيعي والجسدي فالرب يضيف هنا أن الروح الإنسانية
المولودة في ملكوت الله تجوع وتعطش أيضاً للبر، جوع وعطش
روحي بنفس الحاح وعمق الجوع
والعطش الجسدي، جوع وعطش يشكِّل دافعاً قوياً للسعي الروحي في دروب ملكوت الله،
جوع وعطش
لا تستطيع أي أمور مادية أو نفسية أن تشبعه، لا يشبع إلا
بإدراك
«البر» وتحقيقه.
ولقد تكلم الرب في
نفس الموعظة على الجبل عن قلق الناس واهتمامهم وطلبهم للأكل والشرب الجسدي، ولكنه
طلب منا باعتبارنا أبناء ملكوت الله أن يكون اهتمامنا وطلبنا هو أولاً لملكوت الله
و«بره» مع
وعده بأن يعطينا ويُزيد لنا ما نحتاج اليه من الأكل والشرب الجسدي (مت6: 31-33)
ولكي نفهم ما هو
«البر» الذي نجوع إليه ولا نشبع إلا به دعونا نراه في كلمات الرب لتلاميذه عند بئر
سوخار «أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم، طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني
وأتمم عمله» (يو4: 32، 34) ان الطعام الذي تتغذى عليه الروح المولودة في ملكوت
الله
هو أن تصنع مشيئة الله في حياتها، ولا تشعر هذه الروح
بالشبع إلا إذا شهد الروح القدس لها أنها أتمت هذه المشيئة!!
هذا لا ينفي أن جسد
الرب كان جائعاً وعطشاً للخبز والماء بدليل أنه أرسل تلاميذه ليبتاعوا طعاماً وطلب
من المرأة السامرية أن تعطيه ماءً ليشرب، لكن بالإضافة لهذا الجوع والعطش الجسدي كان يعتمل في قلب يسوع جوع آخر
روحي، جوع لا يقل عمقاً والحاحاً عن جوع الجسد، جوع لعمل مشيئة الآب
السماوي بشكل تام وكامل، وفي ذلك اليوم كانت مشيئة الآب
هي خلاص هذه المرأة السامرية، كان هذا هو «البر» الذي يجوع اليه يسوع ويعطش ويريد
أن يتممه حتى يشبع.
ولكي يكتمل هذا الحق الكتابي أمامنا لابد أن نقرأ ما
قاله الرب للشيطان في تجربته الأولى على الجبل «فأجاب وقال
مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله»
(مت4: 4) هنا
الرب لا ينفي أن الجسد يجوع للخبز لكي يحيا ولكنه يضيف أن الروح المولودة في ملكوت
الله تجوع أيضاً لكل كلمة تخرج من فم الله، وهذه الكلمة التي تخرج من فم الله هي
التي تعلن لنا مشيئته في
حياتنا، وبمجرد خضوعنا لهذه الكلمة ينشأ جوع جديد في أعماقنا لننفذ هذه المشيئة
ونحوِّلها إلى واقع ملموس على الأرض، فاذا كان «الحق» هو مشيئة الله المعلنة في
كلمته الخارجة من فمه فإن
«البر» هو هذه
المشيئة عندما تتحول في حياتنا إلى
سلوك عملي!!
والدليل الحقيقي
لنجاح المؤمن في تحقيق مشيئة الله على أرض الواقع هو الإحساس الروحي
العميق بالشبع، عندما أتم يسوع مشيئة الآب في حياة السامرية شعر بالشبع والارتواء
لدرجة أنه لم يتناول من الطعام الذي أتى به التلاميذ!! والعكس أيضاً صحيح، فالدليل
الأكيد لفشلنا في تحقيق مشيئة الله هو إحساسنا العميق
بعدم الشبع وعدم الارتواء!! وللحديث بقية (يتبع)