السبت، 29 يوليو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (7)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون» (مت5: 6)
أقوى احتياج في كيان الإنسان هو الاحتياج للأكل والشرب، منذ اللحظة الأولى للميلاد نجد المولود يعلن قدومه إلى العالم بالصراخ طالباً للطعام، ويظل الإنسان طوال أيامه يسعى في دروب الدنيا بحثاً عما يأكله ويشربه، ان الجوع والعطش هما الدافع الأقوى الذي يدفع الإنسان للسعي والاجتهاد في الحياة، لأن الانسان إذا لم يجد ما يأكله ويشربه فانه يفقد الحياة نفسها.
إذا كان هذا حقاً على الصعيد الطبيعي والجسدي فالرب يضيف هنا أن الروح الإنسانية المولودة في ملكوت الله تجوع وتعطش أيضاً للبر، جوع وعطش روحي بنفس الحاح وعمق الجوع والعطش الجسدي، جوع وعطش يشكِّل دافعاً قوياً للسعي الروحي في دروب ملكوت الله، جوع وعطش لا تستطيع أي أمور مادية أو نفسية أن تشبعه، لا يشبع إلا بإدراك «البر» وتحقيقه.
ولقد تكلم الرب في نفس الموعظة على الجبل عن قلق الناس واهتمامهم وطلبهم للأكل والشرب الجسدي، ولكنه طلب منا باعتبارنا أبناء ملكوت الله أن يكون اهتمامنا وطلبنا هو أولاً لملكوت الله و«بره» مع وعده بأن يعطينا ويُزيد لنا ما نحتاج اليه من الأكل والشرب الجسدي (مت6: 31-33)
ولكي نفهم ما هو «البر» الذي نجوع إليه ولا نشبع إلا به دعونا نراه في كلمات الرب لتلاميذه عند بئر سوخار «أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم، طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو4: 32، 34) ان الطعام الذي تتغذى عليه الروح المولودة في ملكوت الله هو أن تصنع مشيئة الله في حياتها، ولا تشعر هذه الروح بالشبع إلا إذا شهد الروح القدس لها أنها أتمت هذه المشيئة!!
هذا لا ينفي أن جسد الرب كان جائعاً وعطشاً للخبز والماء بدليل أنه أرسل تلاميذه ليبتاعوا طعاماً وطلب من المرأة السامرية أن تعطيه ماءً ليشرب، لكن بالإضافة لهذا الجوع والعطش الجسدي كان يعتمل في قلب يسوع جوع آخر روحي، جوع لا يقل عمقاً والحاحاً عن جوع الجسد، جوع لعمل مشيئة الآب السماوي بشكل تام وكامل، وفي ذلك اليوم كانت مشيئة الآب هي خلاص هذه المرأة السامرية، كان هذا هو «البر» الذي يجوع اليه يسوع ويعطش ويريد أن يتممه حتى يشبع.
 ولكي يكتمل هذا الحق الكتابي أمامنا لابد أن نقرأ ما قاله الرب للشيطان في تجربته الأولى على الجبل «فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت4: 4) هنا الرب لا ينفي أن الجسد يجوع للخبز لكي يحيا ولكنه يضيف أن الروح المولودة في ملكوت الله تجوع أيضاً لكل كلمة تخرج من فم الله، وهذه الكلمة التي تخرج من فم الله هي التي تعلن لنا مشيئته في حياتنا، وبمجرد خضوعنا لهذه الكلمة ينشأ جوع جديد في أعماقنا لننفذ هذه المشيئة ونحوِّلها إلى واقع ملموس على الأرض، فاذا كان «الحق» هو مشيئة الله المعلنة في كلمته الخارجة من فمه فإن «البر» هو هذه المشيئة عندما تتحول في حياتنا إلى سلوك عملي!! والدليل الحقيقي لنجاح المؤمن في تحقيق مشيئة الله على أرض الواقع هو الإحساس الروحي العميق بالشبع، عندما أتم يسوع مشيئة الآب في حياة السامرية شعر بالشبع والارتواء لدرجة أنه لم يتناول من الطعام الذي أتى به التلاميذ!! والعكس أيضاً صحيح، فالدليل الأكيد لفشلنا في تحقيق مشيئة الله هو إحساسنا العميق بعدم الشبع وعدم الارتواء!! وللحديث بقية (يتبع)


الأحد، 2 يوليو 2017

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (6)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (مت5: 5)
يمتدح الرب هنا صفة أخرى من صفات أبناء الملكوت وهي صفة الوداعة، والوداعة هي إعطاء الآخرين حقوقهم وعدم التعدي على حريتهم. الشخص الوديع كما يعطي لنفسه الحق في أن يؤمن بما يقتنع به يعطي أيضاً للآخرين حقهم في أن يؤمنوا بما يقتنعون به حتى لو كان مختلفاً عن ايمانه، الشخص الوديع يجتهد في الترويج لما يؤمن به لكنه يعرف حدوده جيداً ويعرف متى يتوقف ليعطي الآخرين الفرصة لتقييم ما سمعوه قبولاً أو رفضاً، الشخص الوديع لا يفرض رأيه على الآخرين بالقوة أو التهديد لكنه يحترم حريتهم في أن يأخذوا برأيه أو يرفضوه، وفي الحالتين سواء قبلوا رأيه أو رفضوه هو يستمر يحبهم بذات الدرجة والكيفية!!
لكل انسان مساحة من حرية الارادة والفكر والعمل، والشخص الوديع هو الذي يسير وسط الناس مدركاً لهذه المساحة التي للآخرين ولا يحاول أبداً أن يخترقها أو يسلبها منهم، الشخص الوديع لا يستثمر قدراته في جعل الآخرين ينساقون وراء أفكاره ليفعلوا ارادته هو، انه لا يدخر وسعاً لخدمتهم لكنه لا يسعى من وراء هذه الخدمة لسلب حريتهم أو اقتناص ارادتهم لخدمة أغراضه الشخصية، انه يحترم مساحة الخصوصية التي للآخرين ويدرك أن حدود حريته تنتهي عند حدود حرية الآخرين!!
ولكي نفهم الوداعة بالحق لابد أن نراها عملياً في حياة ربنا يسوع المسيح، الذي قال عن نفسه أنه وديع ومتواضع القلب، لقد كان ربنا يمتلك الحق الكامل بل كان هو في ذاته الطريق والحق والحياة، ومع ذلك نجده لا يفرض فكره أو ارادته على أحد بل يحافظ دائماً للآخرين على مساحة حريتهم، كان بعد كل مرة يتكلم فيها بالحق يختم كلماته بعبارة «من له أذنان للسمع فليسمع»!! وعندما تركه الناس ورفضوا كلامه لم نجده يغضب أو يهدد بل يلتفت لتلاميذه ليؤكد لهم أنهم هم أيضاً أحرار إن أرادوا أن يتركوه ويمضوا (يو6: 67)!!
وعندما كان سيدي يفعل احساناً لإنسان لم يكن يقصد أن يأسر هذا الانسان بإحسانه، اسمعه يقول لبارتيماوس «اذهب، ايمانك قد شفاك» أو للمرأة الخاطئة «اذهبي بسلام» أو للمرأة المُمسكة في ذات الفعل «اذهبي ولا تخطئي أيضاً»، ان كلمة «اذهب» تعني «أنت حر، خذ الإحسان واذهب في طريقك الذي تختاره، احساني غير مشروط وأنا لا أقصد منه اقتناص ارادتك أو التعدي على حريتك»!!     
اننا لا نستطيع أن نفهم حقيقة أحداث الصليب إلا إذا فهمنا معنى الوداعة، لماذا ترك الرب يهوذا يخونه دون أن يمنعه؟ لماذا ترك رؤساء اليهود يتآمرون عليه ولم يهرب؟ لماذا سلَّم نفسه للأحكام الظالمة والآلام القاسية دون شكوى أو تهديد؟ هل كان الرب في هذا الوقت «ضعيفاً»؟ حاشا، بل كان سيدي «وديعاً»!! بعد خدمته الكاملة لشعبه كان لابد أن يعطيهم حقهم في قبول خدمته أو رفضها، كان يحتفظ لهم بحريتهم في اتخاذ رد الفعل المقابل لإحسانه وخدمته، حتى لو كان رد الفعل للإحسان هو الخيانة والغدر!!

   صفة الوداعة هذه غير موجودة في طبيعتنا البشرية الساقطة، وعبثاً تبحث عنها في قلوبنا الرديئة، فالقلب البشري يجد لذته في امتلاك ما ليس له والتعدي على ما للآخرين، قلوبنا في حالة صراع يومي لامتلاك إرادة الآخرين وتسخيرهم لفعل ارادتنا، اننا نستخدم الترهيب والترغيب لنستميل الناس وراءنا لتحقيق أغراضنا الذاتية، نحن نشعر بسعادة غامرنا إذا امتلكنا مساحات في عقول الناس وملأناها بأفكارنا الشخصية، ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)