الاثنين، 1 ديسمبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (7)
فخرى كرم
«وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء» (لو23: 9)
كان هيرودس يريد من زمان طويل أن يرى يسوع لكن كبرياءه الملكي منعه من أن يذهب إليه، كان يريد أن يراه ويسمعه ويبصر آياته لأن ضميره المُثقَّل بمقتل المعمدان كان يطارده بفكرة أن يسوع ليس سوى يوحنا المعمدان وقد عاد للحياة ولذلك تُعمل به القوات (مت14: 1، 2) وعندما حانت الفرصة وأرسل بيلاطس إليه يسوع مُقيداً ومُتهماً فرح هيرودس جداً واعتبر أن الوقت قد حان لكي يستريح ضميره من عناء الشكوى ويقف على حقيقة هذا الشخص الغريب الذي سمع عنه كثيراً، ولذلك ما إن وقف أمامه يسوع حتى بادره بأسئلة وكلام كثير، ولكن كانت المفاجأة أن يسوع التزم الصمت ولم يجبه بشيء!!       
عدة أمور كانت تدفع الرب للرد على أسئلة هيرودس، أولها وجوب الخضوع للسلطة الحاكمة، فالرب يقف هنا موقف المتهم أمام الحاكم الذي يملك سلطة ادانته أو تبرئته، والمتهم في تلك الأزمنة القديمة لم يكن يملك ترف أن يختار بين أن يجيب أو لا يجيب عن أسئلة الحاكم، وثانيها الرحمة المعروفة عن ربنا والتي تدفعه للتجاوب مع نفس متعبة تحتاج أن تسمع منه ما يشبع فضولها ويبدد حيرتها، وثالثها أن يتجنب إثارة غضب الثعلب الكامن في أعماق هذا الحاكم المنفلت الأخلاق، فالرب يعلم تماماً أن بداخل هيرودس وحشاً إذا غضب سيتحول إلى النهش والإهانة بدون وازع من عقل أو ضمير، ورغم كل هذه الدوافع يفاجئنا الرب بالصمت التام!! كان سكوت سيدنا في هذا الموقف بليغاً جداً كما تعودنا منه، وإن كنا قد تعلمنا منه درس ألا نتكلم حين لا يكون للكلام فائدة ففي هذا الموقف نتعلم منه درساً آخر:
† ثانياً: لا كلام جديد مع مَن استهان بالكلام الأول!! في يوم من الأيام أرسل الله يوحنا المعمدان ووضع في فمه رسالة خاصة لهيرودس الملك الماجن، كان ملخص الرسالة أنه: لا يحلُّ أن تكون له هيروديا امرأة أخيه (لا18: 16) ولا شك انها نعمة جزيلة وامتياز عظيم أن يرسل الله رسالة إلى إنسان لكي يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الخطية والفساد، وأن تكون هذه الرسالة على فم نبي هو الأعظم بين المولودين من النساء فهذا يجعل النعمة مضاعفة والامتياز أعظم، لكن هيرودس لفرط ضعفه أمام شهوته قرر ألا يخضع لهذه الرسالة السماوية، ولشدة خضوعه لسلطان هيروديا امرأة أخيه فيلبس قرر أن يلقي بيوحنا في السجن لكي لا يعود يتجرأ ويتكلم معه بمثل هذه الرسالة، وفي يوم أسود من تاريخه وتحت تأثير نفس الشهوة ونفس الامرأة قرر أن يقطع رأس يوحنا المعمدان، الرأس التي اهتمت بصالح حياته الزمنية والأبدية، الرأس التي حملت له فكر الحق الإلهي وطريق البر العملي، هذه الرأس المباركة قرر هيرودس أن يمد يده الأثيمة ويقطعها، لقد مزَّق الرسالة وداسها بقدميه ثم تحوَّل ليقطع رأس الرسول لكي لا يعود يحمل له المزيد من الرسائل الإلهية!!
وتدور الأيام ويجد هيرودس نفسه أمام رب يوحنا المعمدان ومُرسله، فيسوع هو صاحب الرسالة التي أعطاها ليوحنا وأرسله أمامه ليُعدُّ له الطريق، انه بذاته جوهر الحق الذي نطق به يوحنا ورفضه هيرودس ومزَّق المتكلم به شرَّ تمزيق، والآن هيرودس يتكلم كثيراً ويحاول أن يجعل يسوع يتكلم معه، يسأله كثيراً ويُبدي شعوراً مزيفاً بأنه يريد أن يسمع منه إجابات شافية وحقائق وافية، لكن سيدي بصمته البليغ كان يقول له ولنا بصوت عالٍ كالرعد «لا كلام جديد مع مَن رفض واستهان بكلامي الأول»!!

 ألا يحمل لنا سكوت السيد درساً مهماً في أيامنا هذه؟! ألا نختبر كثيراً صمت السماء عن كلام جديد والسبب أننا لم نكن أمناء بما يكفي في الكلام الأول الذي قيل لنا؟! ولكن لهذا حديثاً آخر (يتبع)  

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (6)
فخرى كرم
«كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه» (أش53: 7)
كان سيدنا عظيماً وبليغاً في سكوته تماماً كما كان عظيماً وبليغاً في كلامه، كان نموذجاً للإنسان الكامل الذي يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، حتى استحق أن يُذكر صمته في النبوة قبل مجيئه بمئات السنين.
عندما تعرَّض أيوب لمحاكمة أصحابه واتهاماتهم لم يستطع أن يظل معتصماً بالصمت بل اندفع يتكلم لكي يبرِّر نفسه وينفي عنها الاتهام، وفي معرض دفاعه عن نفسه وجدنا الكثير من القصور بل والحماقة في الكلام، وهذا القصور وتلك الحماقة موجودة بكثرة في داخل كل واحد منا لكن ربما تحتاج إلى ظروف ضاغطة لكي تُخرجها للعلن.
ولقد تعرَّض سيدنا لمحاكمة أكبر بكثير من محاكمة أيوب ووجِّهت له اتهامات أخطر وأفظع من تلك التي وُجِّهت لأيوب لكنه مع ذلك استطاع أن يظل متمسكاً بصمته المملوء إيماناً وتسليماً لمن يقضي بعدل، أصحاب أيوب تكلموا معه بالمنطق والحجة فلم يحتمل كلماتهم أما سيدنا فقد تكلم معه الحكام بالأكاذيب والإهانات والشتائم، واستخدموا التهديد والسخرية والاستهزاء، ولجأوا للعنف والضرب والتعذيب، وانتهوا بالصلب والموت والسحق، لكن رغم كل ذلك لم تخرج من فمه كلمة لا تمجِّد الله أو تنسب له حماقة، ولقد كان هذا الصمت شديد البلاغة وعميق الدلالة، يحمل الكثير من المعاني التي ينبغي أن نتأمل فيها قليلاً:
† أولاً: لا ينبغي التكلم حين لا يكون للكلام قيمة!! قيمة الكلام أن يكون له تأثير ايجابي في نفوس سامعيه، لقد قال ربنا «ان كل كلمة بطَّالة (بلا فائدة) يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين» (مت12: 36) ويذكر الرسول بولس نفس المعنى في قوله «لا تخرج كلمة ردِّية من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين» (أف4: 29) ولكي يكون للكلام قيمة إيجابية ينبغي أن تتوفر النية للاستفادة من الكلام (ولو في حدها الأدنى) في نفوس السامعين، كان الرب دائماً يتوجه بكلامه لمن عندهم «أذن للسمع» أي لديهم ولو الحد الأدنى من الرغبة في الاستماع والاستعداد للاستفادة من الكلام.

في أثناء محاكمة الرب بل وقبل المحاكمة بأسبوع لم يعد لقادة اليهود «أذن للسمع» ليسمعوا أقوال الرب، لقد عقدوا النية أن يقتلوه، وفي كل مرة كانوا يتكلمون معه لم يكن الهدف أن يستفيدوا من أقواله بل أن يصطادوه بكلمة لكي يشتكوا عليه، كانوا يستدرجوه لكي يتكلم ونيتهم معقودة على اتخاذ كلماته حجة ضده، أياً كان الكلام الذي سيقوله كان سيستخدم ضده، وبالتالي فأي كلمات سيقولها الرب في موقف المحاكمة لن يكون لها تأثير ايجابي في نفوس سامعيه، لذلك قرر الرب أن يصمت لكي يعلمنا درساً مهماً وهو أننا إذا استشعرنا أن كلماتنا لن تؤثر في شيء فلا داعي للنطق بها، فما قيمة كلمات تنطق بها أمام قاضٍ قرَّر بالفعل ما سيصدره من أحكام؟! وما الهدف من كلمات تقولها إذا كان المستمعون قد عقدوا العزم ألا يستفيدوا منها؟! وللحديث بقية (يتبع)   

الجمعة، 10 أكتوبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (5)
فخرى كرم
ولكني قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها» (أي42: 3)
خطأ الكلام لا يكمن عادة في الكلمات المجردة التي ننطق بها بل في دافع الكلام وروحه وهدفه، يكمن في اعتقاد الإنسان انه يفهم كل شيء وأنه مؤهل لإسداء النصائح والتوجيهات، الإنسان يظن أن بعض المعلومات السطحية التي عنده تعطيه الحق أن يصدر قرارات وأحكام على الظروف والأشخاص وحتى على الله نفسه، وكل من أيوب وأصحابه الثلاثة وقع في هذا الخطأ.
أيوب أصدر أحكاماً على حياته وعلى يوم ميلاده، حَكَم على حياته بأنها لا تستحق أن تُعاش وأن قرار مجيئه إلى الدنيا كان قراراً خاطئاً، ورغم أنه تحاشى في البداية أن يتهم الله بالقساوة بكلمات صريحة وتجنَّب أن ينسب الخطأ لله بشكل مباشر إلا أن روح الكلام وهدفه الخفي هو أن ينسب انعدام الحكمة والقساوة لشخص الله!! إذا كنا نؤمن أن الميلاد والحياة والموت بيد الله فتكون شكايتنا على يوم ميلادنا أو على ظروف حياتنا هي شكاية على الله نفسه!! بعض الأحداث الخارجية التي حدثت لأيوب جعلته يعتقد أنه مؤهل لإصدار الأحكام على الحياة والأيام والميلاد والموت وهي كلها أمور من شأن الله وحده الذي بيده آجالنا، أيوب لا يفهم لماذا سمح الله له أن يأتي إلى هذه الحياة ولا لماذا سمح له بالظروف التي مرت به ولا يعلم ما سوف تنتهي إليه الأحداث في المستقبل ولا البركة التي ذخرها الله له في نهاية الأيام، ورغم كل هذا الجهل وعدم الفهم إلا أنه تكلم بما لم يفهم وخاض في عجائب فوقه لم يعرفها.
المدقق في كلمات أصحاب أيوب الثلاث يكتشف أنها خالية من أي أخطاء لاهوتية أو تعليمية، بمنطق الكلمات المجردة هي كلمات صحيحة تحمل معانٍ ومفاهيم في غاية الروعة، كلماتهم تحاول أن تبرر الله وتنزهه عن كل خطأ أو ظلم، أقوالهم تعتبر نموذجاً للخطاب الديني الممجد لله والداعي لطريقه القويم، ومع ذلك نجد الله يدين أقوالهم هذه ويأمرهم أن يعتذروا عنها لأيوب ويطلبوا صفحه عنهم وصلاته لأجلهم!! أين الخطأ إذاً؟! مرة أخرى نؤكد أن الخطأ ليس في نص الكلمات أو فحواها بل في إدعاء الفهم لبوطن الأمور واصدار الأحكام بدون معرفة.
 رؤية أصحاب أيوب للأحداث التي حاقت به جعلتهم يعتقدون أنه بلاشك ينال عقوبة من الله عن شرور مستترة، وبدأوا يتكلمون معه بروح المعلم الذي يفهم ما يجري وهم في الحقيقة غير فاهمين لحقيقة ما جرى لأيوب، وكان كلامهم بدافع إلصاق التهم بأيوب ودفعه دفعاً للتوبة عن شر غير موجود ولا يدري أيوب عنه شيئاً، لقد كانت كلامتهم صحيحة وتحمل تعاليم رائعة لكن مع ذلك كانت أحاديثهم خاطئة ينبغي الإعتذار عنها!! لكي يكون كلامنا صحيحاً لا يكفي أن يكون مضمونه صحيحاً بل ينبغي أن يكون مضمونه صحيحاً ويُقال للشخص الصحيح في التوقيت الصحيح!! كلام أصحاب أيوب كان كلاماً يحمل مضموناً صحيحاً لكنه لم يُقال للشخص الصحيح ولا في التوقيت الصحيح، لم يكن أيوب هو الشخص الخاطئ الذي في مخيلتهم ولم يكن في هذا التوقيت يحتاج إلى مَن يُكيل له الإتهام ويضيف على ضيقه ضيقاً، كان أيوب في هذا الوقت يحتاج لمَن يرثي له ويجلس بجانبه في سكوت بليغ لكي يساعده أن يهدأ ويرفع نظره إلى الله لعل الله يكشف له سر البلاء الذي أصابه، لكن الإنسان في غروره يأبى أن يسكت ولا يرضى إلا بأن يلعب دور الفاهم والعارف ببواطن الأمور.

لقد استذنب أيوب الرب لكي يبرر نفسه وكان في هذا مخطئاً، ولقد إستذنب الأصدقاء الثلاثة أيوب لكي يبرروا الله وكانوا في هذا مخطئين أيضاً!! لم يكن ثمة خطأ من جانب الله أو أيوب، لقد كان الله باراً في كل ما سمح به وكان أيوب أيضاً باراً في حدود فهمه وعلمه كانسان، لقد دخل أيوب التجربة باراً بشهادة الرب وخرج منها وهو أكثر براً!! لم يكن هناك خطأ أصلاً يحتاج إلى تبرير سواء من جانب الله أو من جانب أيوب، هل تتصور أن كل المجادلات والحوارات في سفر أيوب هي في الحقيقة محاولة لتبرير خطأ غير موجود أصلاً!! لكن هذا هو دأب الإنسان وولعه الشديد بالكلام وإدعاء الفهم، وللحديث بقية (يتبع)

الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (4)
فخرى كرم
«كُفَّ عني لأن أيامي نفخة!! ما هو الإنسان حتى تعتبره؟ وحتى تضع عليه قلبك؟ وتتعهَّده
كل صباح وكل لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي؟»( أي 7: 16-19)
قد يوجد في أرواحنا قدراً من محبة الله ورغبة في السير معه والجلوس تحت ظله، وهذه المحبة هي من عمل روح الله في داخل أرواحنا، لكن هذا لا ينفي أنه في ذات الوقت يوجد جهل مطبق بالله في داخل أنفسنا، الاستنارة التي يصنعها الروح في داخل أرواحنا لا تصل بسهولة إلى أعماق مشاعرنا وأفكارنا، لأن لكل من الروح والنفس طبيعة مختلفة، أرواحنا تستقبل بسهولة عمل الروح القدس وإعلاناته بينما نفوسنا تجد صعوبة شديدة في ذلك، أرواحنا قريبة للروح القدس بحكم طبيعتها المأخوذة منه أما نفوسنا وأجسادنا فهي قريبة أكثر للعالم المادي وتمتلئ بسهولة بمنطق الإنسان وأفكاره، لذلك كثيراً ما نرى بداخلنا صراع بين أرواحنا ونفوسنا، فبينما أرواحنا تريد أن تأخذنا بقرب الله نجد أنفسنا تبتعد بنا بعيداً عنه!!
عندما تعرَّض أيوب للتجربة المريرة خرج من داخله موقفان: أحدهما من روحه التي تحب الله وتثق فيه والآخر من نفسه التي تجهل كل شيء عن الله وتتعامل معه بمنطق الإنسان وأفكاره، وعلى مَن يقرأ أقوال أيوب أن يميز كل الوقت بين ما تنطق به روح أيوب وبين ما تقوله نفسه، فالاختلاف بينهما كبير ويدعو للدهشة!!
أمام التجربة اتخذت روح أيوب موقف السكوت البليغ الذي يعني التسليم لمشيئة الله وقبول كل الأمور من يديه بشكر، السكوت الذي يعني تقديم المجد لله سواء أعطى أو أخذ، السكوت الذي يعني اعتراف الإنسان بعجزه عن فهم كل ما يجري حوله وجهله بالكثير من القوى المحيطة بحياته والمؤثرة فيها، السكوت الذي ينشر عبق الطاعة وبخور التسليم ليغطي على دخان الشكوى الذي يريد العدو أن ينشره في الأجواء المحيطة، السكوت الذي يجعل السلام يسود في المنطقة التي أراد العدو أن يعمَّها الفوضى والاضطراب.
  لكن هذا العبق الجميل الخارج من روح أيوب لم يستمر طويلاً، فبعد سبعة أيام بدأ يتكلم بما في نفسه ومشاعره، بدأت النفس الإنسانية تتكلم بمنطقها وتستعرض أفكارها، فوجدنا صبغة الكلام تختلف ووجهة النظر تتغير، تبدلت نغمة الخضوع والتسليم في كلامه ووجدنا نغمة الرثاء للذات تملأ أقواله، وعوضاً عن صبغة تمجيد الله التي صبغت أيام التجربة الأولى رأينا صبغة الشكوى من الله وتصويره كإله جبار يتسلط على حياة الإنسان بعنف غير مبرر، وبدل اشتياق الروح للاقتراب من محضر الله والتمتع بلمسته رأينا النفس تريد الابتعاد عنه حتى أنها تقول بجسارة غريبة: «كفّ عني..حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني»!!

روح أيوب ترى الله إلهاً صالحاً ممجداً حين يعطي وحين يأخذ بينما نفسه التي تربَّت على أفكار العالم ترى الله إلهاً قاسياً ممتلئاً بالعنف والشدة، روح أيوب تشعر بالأمان في عين الله الساهرة عليها أما نفسه فتتمنى أن تلتفت عين الله بعيداً عنها وتتركها، روح أيوب تشعر بالامتنان والفخر لأنه عاش حياته في رفقة هذا الإله العظيم وتعترف انها اخذت منه الكثير من الخير، أما نفسه فتشعر بالمرارة الشديدة تجاه حياته وتتساءل لماذا أعطاه الله حياةً ولماذا لم يمت وهو بعد جنين في رحم أمه، وكلماته هذه تعني أنه لم يجد في حياته الطويلة مع الله يوماً واحداً يستحق أن يحياه، كما لو أن هذا الإله العظيم لم يضف لحياته أي شيء جميل يجعل الحياة تستحق أن تُعاش!! أليست هذه الكلمات مملوءة بحماقة شديدة وجحود ونكران جميل مفرطين؟! كيف يخرج من الإنسان الواحد ماءً عذباً منعشاً وماءً عكراً شديد المرارة، كيف تهدأ الروح وتسكت بينما تصر النفس أن تملأ الأجواء ضجيجاً وتنشر دخان الشكوى وضباب الجهل في كل مكان؟! لكن على كل حال هذا هو الإنسان في كل زمان ومكان، وإختبارنا اليوم لا يختلف في شيء عن إختبار هذا القديس الذي عاش في زمان قديم!(يتبع)  

الخميس، 7 أغسطس 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (3)
فخرى كرم
«في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه...
بعد هذا فتح أيوب فاه وسبَّ يومه» (أي2: 10، 3: 1)
تعرَّض أيوب لسلسلة من الأحداث المتوالية ذات السيناريو المتشابه بما يشي بأنها أحداث مدبَّرة وليست عشوائية، أحداث يقف وراءها عقل واحد جبار وذراع قادرة على الشر، أحداث تؤكد أن مَن يقف وراءها يبغض أيوب بغضة شديدة ويريد أن يسحقه سحقاً، أحداث حولته في فترة زمنية قصيرة من أغنى بني المشرق إلى أكثرهم مدعاة للشفقة والرثاء!!
لم يكن الإعلان الروحي والكتابي كاملاً في وقت أيوب بل كانت هناك معرفة بدائية عن وجود إله يتحكم في الكون، لم يكن هناك إعلان عن الشيطان الذي يشتكي على أبناء الله ليلاً ونهاراً، ولا عن قدرة مملكته الشريرة على تحريك البشر والرياح وكل الظروف لصناعة الموت والدمار، ولا عن قدرة هذه القوات الشريرة على تسبيب الأمراض والعلل في جسد ونفس الإنسان.
عندما نقرأ سفر أيوب يكشف لنا الوحي عما كان يدور في السماويات وما ترتب عليه من أحداث في الأرض، لكن هذه الحقائق لم تكن واضحة في ذهن أيوب ولا في روحه، معرفته البدائية عن الأمور الروحية لم تستطع أن تفسر له ما يحدث، عدم معرفته بوجود مملكة شريرة في السماويات جعله ينسب كل ما يجري لله وحده، وهو نفس التوجُّه الفكري الذي اتخذه أصدقاؤه عندما حاولوا أن يفسروا ما جرى له، وهذا القصور في المعرفة الروحية خلق للجميع معضلة صعبة تستعصي على الحل، ألا وهي: كيف يكون الله بهذه القسوة غير المبرَّرة؟ وكيف يمكن الجمع بين صورة الله الجميلة في خيال البشر وبين المفاسد التي تحدث في أرض الواقع؟ كيف يظل الإنسان يؤمن بعدالة الله ومحبته في ظل المآسي التي يتعرض لها كل يوم؟!
وأفضل حل لهذه المعضلة هو أن يعترف الإنسان بعجزه عن حلها!! كم هو مريح للإنسان أن يقرُّ بقصور معرفته ومحدودية إدراكه، كم هو جميل أن يتواضع الإنسان أمام جبروت هذه الأحداث القاهرة ويسلِّم بجهله وعجزه عن فهم ما يدور حوله، كم هو رائع أن يتخذ الإنسان موقف الفطيم الضعيف الذي يلوذ بحضن أمه ويجد فيه كل العزاء رغم عدم فهمه لما يدور حوله، كم هو حسن أن يتعلَّم الإنسان كيف يهدِّئ ويسكِّت نفسه ويتجنب كبرياء النفس الذي يدفعه للخوض بحماقة في العظائم والعجائب التي فوقه، إن السكوت المصحوب بالتسليم لإرادة وحكمة الله في هذه المواقف هو الأكثر بلاغة من أي كلام، السكوت المقترن بالثقة في صلاح الله والانتظار لإعلانه هو الأكثر مرضاة لله من أي مماحكات كلام باطلة.
لكن يبدو أن السكوت ليس أمراً سهلاً، بل أنه أحياناً يكون شديد الصعوبة!! لقد استطاع أيوب أن يسكت لبعض الوقت ولم يخطئ بشفتيه، وفي هذا الوقت القصير كان مازال متمسكاً بكماله أمام الله مسلماً بحكمة الله وصلاحه، لكن تحت وطأة المرض الذي مسّ جسده وعيون أصحابه الممتلئة بالشك والاتهام قرر أيوب أن يتكلم ويتصدى لمحاولة تفسير ما يجري له من أحداث، وهنا فقط بدأ التدهور من خطأ إلى خطأ ومن حماقة إلى أخرى، وكشفت كلماته عن مكنون قلب الإنسان الجاهل بطبيعة الله والممتلئ بالشك في صلاحه، للأسف لم تستمر بلاغة السكوت في حياة أيوب أكثر من سبعة أيام وبعدها بدأت حماقة الكلام!! ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

الأربعاء، 2 يوليو 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (2)
فخرى كرم
«يا رب لم يرتفع قلبي ولم تستعلِ عيناي ولم أسلك في العظائم ولا في عجائب فوقي، بل هدَّأت وسكَّت
نفسي كفطيم نحو أمه، نفسي نحوك كفطيم» (مز131: 1، 2)
كثيراً ما تمر حياتنا بظروف لا نفهمها، ونجتاز في أحداث غريبة لا نعرف القوى المتحكمة فيها ولا المعاني التي تقف وراءها، والحقيقة أننا كائنات ضئيلة الشأن جداً تتحكم فينا قوى خفية تحركنا مثل قطع الشطرنج على رقعة صغيرة لتحقيق أهداف خفية لا ندرك كنهها، والإنسان الذي يظن في نفسه أنه يفهم مجريات الأمور وأبعادها هو إنسان مرتفع القلب ومنتفخ من قِبِل ذهنه الباطل، والإنسان الذي يتكلم كثيراً في محاولة لشرح الأحداث ووضع التفسيرات لكل ما يجري حوله هو في الحقيقة إنسان مغرور لدرجة تثير الشفقة والضجر، فالإنسان لا يدرك إلا نسبة ضئيلة جداً مما يحدث في حياته وهو في معظم الوقت مفعول به لا فاعل، تحركه قوات أعلى منه وأكثر ذكاء مما يتصور، ومحاولة الاطلاع على هذه العجائب والعظائم التي فوقنا محاولة فاشلة بكل المقاييس إلا إذا أنار الروح القدوس أعيننا وجلى بصيرتنا لنبصر (ولو بقدر محدود) هذه العوالم الخفية.
وهذه القوى الخفية التي تتحكم في حياتنا تنقسم إلى قوى شريرة وأخرى صالحة، فكما ان هناك مملكة ضخمة للشر تسود وتعمل في أبناء المعصية لتتميم مشيئة الشيطان، هناك أيضاً ملكوت الله الذي يعمل من خلال أبنائه لتتميم مشيئة الله الصالحة على الأرض، فسلطان الله على البشر ومحاصرة روح الله للإنسان في كل أحواله وأوضاعه أمر يفوق خيالنا ولا نستطيع تصوره، قال عنه داود «من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت عليّ يدك،  عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها، أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟» (مز139) إن معرفة الله لتفاصيل حياتنا الدقيقة وتحكّمه فيها أمور ترتفع فوق ادراكنا ولا نستطيع فهمها بالكامل واستيعابها.
لكننا للأسف لا نكفُّ أبداً عن حماقة اعتقادنا أننا نفهم كل شيء!! نرتئي دائماً فوق ما ينبغي أن نرتئي ونظن في أنفسنا أننا نملك ناصية المعرفة ومفاتيح الفهم، حتى أننا لا نتوانى عن محاولة شرح الأحداث والتفاصيل التي تمر بها حياتنا وحياة المحيطين بنا، فننسب هذا للشيطان وذاك لله وتلك للإنسان...، ونتقدم أكثر في كبريائنا فنُسدي النصيحة للواحد بأن يفعل هذا وللآخر بأن يتصرف هكذا، وكأننا المدركين لبواطن الأمور والفاهمين لمسارات الأحداث والمطّلعين على نهاياتها، لعن الله كبرياء الإنسان وغروره في كل زمان ومكان!!
لكن الأكثر مدعاة للأسف أننا ندخل إلى محضر الله بذات الروح المتعالية التي تظن أنها تعرف كل شيء وهي في الغالب لا تعرف أي شيء، ونحن أمام الله لا نكف عن الكلام في ما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون، نحاول أن نملأ وقت صلاتنا بأحاديث عن ما يصح وما لا يصح، عن ما ينبغي أن يفعله الله وما لا يجوز أن يسمح به، نحمل حكمتنا ونرفعها بكبرياء أمام عرش الله، بل قد تجدنا في ذات الوقت نشكِّك في حكمة الله وصواب أفعاله بتصلُّف وغباء لا نُحسد عليه، غباء الجُبلة حين تحاول التعديل على جابلها والتشكيك في حكمته!!

داود يعلمنا أنه عندما نمر بأحداث لا نفهمها ويقصر إدراكنا على الإلمام بأبعادها فهذا هو الوقت المناسب لنتعلم السكوت أمام الله!! عندما تدخل النفس إلى محضر الله وترفع إليه عينين دامعتين ولا تنطق بكلمة فهذا السكوت هو أبلغ من أي كلام، السكوت هنا يحمل معانٍ لا تستطيع الكلمات مهما كانت بلاغتها أن تحملها، عندما نهدئ ونسكِّت نفوسنا أمام الله فالسكوت هنا يحمل معنى إدراكي أني صغير جداً عن فهم ما يجري حولي، صغير مثل الفطيم الذي لا يعرف من الحياة إلا صدر أمه وبعض اللعب والعرائس، ولكني رغم صغري المتناهي أؤمن أن ليّ إلهاً يرعاني كالأم الرؤوم التي تفوقني فهماً وإدراكاً، الأم التي لم ولن ينقصها قط المحبة والإرادة أن تفعل لي أفضل الأشياء وتختار لي أفضل المسارات، هذا السكوت يقول أني لن يرتفع قلبي وتستعلي عيناي وأخوض في العظائم والعجائب التي ترتفع فوقي، لن أحاول أن أتكلم بجهل عن الأسرار الروحية التي تجري في السماويات طالما الله لم يعلنها لي، السكوت يقول اني لن أحاول بغباء أن أشتكي على صلاح وحكمة الله تماماً مثل الفطيم الذي لا يمكنه مهما كان جهله وغباؤه أن يشكِّك في صلاح أمه التي أرضعته كل الخير في كل أيام حياته، السكوت هنا يحمل الكثير من المعاني التي ربما نتكلم عنها في المرات القادمة (يتبع)            

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

أحاديث من القلب

بلاغة السكوت (1)
فخرى كرم
«للسكوت وقت وللتكلم وقت» (جا3: 7)
البلاغة هي القدرة على «ابلاغ» المعنى للمتلقِّي، وكلما كان الإنسان قادراً على توصيل المعنى الذي يقصده للآخرين بدقة وبوضوح كلما كان «بليغاً»، ولا شك أن البشر يتفاوتون في درجة بلاغتهم تفاوتاً كبيراً، ففئة الأدباء والشعراء هم أكثر الناس قدرة على تبليغ المعاني والمشاعر التي تختلج داخلهم للآخرين، يمتلكون أدواتهم من الألفاظ والتشبيهات والصور الذهنية التي يستخدمونها بحِرَفية وبراعة لتوصيل أفكارهم للآخرين، فالأديب الحقيقي اذا قرأت له أو استمعت إليه تجد نفسك قد امتلأت بفكر وأحاسيس ووجهة نظر جديدة لم تكن تمتلكها من قبل، ولكن هناك آخرون أقل بلاغة من هؤلاء يجدون صعوبة في توصيل ما يقصدونه للآخرين ولا تستطيع التواصل معهم إلا بمعاناة، ناهيك عن بعض الناس الذين تنقصهم البلاغة تماماً حتى أنك تصاب بالارتباك والضجر إذا حاولت فهمهم وبالتالي تفضِّل الابتعاد عنهم وتجنُّب الحديث معهم!!  
وللبلاغة وسائط كثيرة وإن كان أشهرها هو الألفاظ والكلمات، حتى ظن البعض ان فن البلاغة قاصر على الأدب المكتوب، لكن هناك مَن يستطيع أن يكون بليغاً ويعبِّر عما بداخله بتعبيرات وجهه أو بابتسامته الرقيقة أو بصرخة غضب مكتوم أو بحركة معبِّرة من جسده، حتى أن الكثيرون من أشقائنا في المجتمع من أصحاب الإعاقة أصبحوا يتواصلون بلغة الإشارة التي تتكون من مجموعة من الحركات الجسدية المقنَّنة، ومن أشهر فنون البلاغة هو فن الباليه الذي يعتمد على الموسيقى المصاحبة لحركات الجسد الرشيقة للتعبير عن المعاني المقصودة دون استخدام للكلمات والألفاظ إلا في أضيق الحدود.
لكن ما لا يعلمه الكثيرون هو أن السكوت أحياناً يكون أكثر بلاغةً من أي كلمات أو تعبيرات، والشخص الحكيم حقاً يعلم أن للسكوت وقت كما أن للتكلُّم وقت، والبليغ فعلاً يعرف أن يعبِّر بسكوته عما لا تستطيع الكلمات أن تعبِّر عنه، وما لا يعلمه الكثيرون أيضاً أن الجاهل هو الذي يُكثر الكلام (جا10: 14) كما أن كثرة الكلام لا تخلو من معصية (أم10: 19) وأن مَن يحب أن يتخذ موضع المُعلِّم ويتكلم كثيراً يأخذ دينونة لنفسه لأنه في أشياء كثيرة نعثر جميعنا (يع3: 1، 2)

وللأسف فإن احدى الآفات التي أصابت مجتمعنا المصري في الآونة الأخيرة هي كثرة الكلام، وللأسف أيضاً أن الكنيسة لم تنجو من هذه الآفة المدمرة، أصبح الكلام سلعة تُباع وتُشترى، بل أصبح الكلام حرفة للبعض تجلب لهم الرزق، وأصبح التنافس بين الجميع على مَن يستطيع أن يتكلم أكثر من الآخرين ومَن يرفع صوته فوق الآخرين، أصبحنا نشعر أننا في «مكلمة» كبيرة تبتلع الأمة كلها وتصيبها بالارتباك والانقسام والتشرذم، كل هذا يحدث بينما الواقع على الأرض يتدهور من سيء إلى أسوأ في كل يوم، مما يعطي مؤشراً واضحاً لكوننا لا نفهم القيمة الحقيقية للكلام والهدف منه ومدى جدواه، ومما يؤشِّر أيضاً لكوننا نحتاج أن نفهم قيمة السكوت وبلاغته وتوقيت اللجوء إليه، وهذا ما سنحاول أن نناقشه في المرات القادمة مسترشدين بكلمة الله التي تُنير وتُعقِّل الجُهَّال (يتبع)     

الاثنين، 5 مايو 2014

أحاديث من القلب

المهنة: قاتل!!
فخرى كرم
«أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن
تعملوا، ذاك كان قتَّلاً للناس من البدء» (يو8: 44)
أناس كثيرون في بلدي امتلأوا بشهوة القتل، قتل على كل شكل ولون، قتل مادي وقتل معنوي، قتل على خلفيات كثيرة ولأسباب متعددة، قتل لأسباب إجرامية وأسباب عرقية وأسباب سياسية وأسباب دينية... وأحياناً بدون أسباب!! لم يعد القتل فعلاً شاذاً عارضاً في بلادنا بل أصبح عند الكثيرين منهجاً للحياة واسلوباً للتفكير، صار القتل للبعض مهنة يمتهنها وحرفة تجلب له المال، وصار للبعض الآخر وسيلة لإثبات القوة وطريق للوصول للمركز والنفوذ، وثالثة الأثافي أن البعض أصبح يعتقد أن القتل هو طريقة الوصول لرضا الله ونعيمه!! البعض صار يوثِّق لجرائم القتل التي يرتكبها بالصوت والصورة لكي يضيفها لسجل شرفه المهني، لم يعد القتل سباباً للخزي والتواري خجلاً بل مادة للمجد والتباهي فخراً!! أصبح الكثيرون في بلدي يستحقون عن جدارة أن يُكتب في بطاقات هويتهم «المهنة: قاتل»!!
وإذ أرفع عيني من على هذا الواقع المرير الذي صرنا نعيشه جميعاً وأرجع لكلمة الله التي بين أيدينا وأسكب حيرتي وتساؤلاتي عند أقدام سيدي أجده يعلِّمني ما يجلو بصيرتي ويبدِّد حيرتي، أجده يخبرني أن القتل هو شهوة إبليس وعمله منذ بدء الخليقة، هو الذي يقف وراء كل جرائم القتل منذ البداية وحتى الآن، وهو ينفذ مشيئته القبيحة هذه من خلال أبنائه الذين يمتلئون بشهوات أبيهم ويعملونها، حتى أنك إذا سمعتَ في مكانٍ ما صراخاً وعويلاً ورأيتَ دموعاً وعذاباً فلتتأكد أن إبليس مرَّ من هناك أو أن أحد أبنائه خطا في هذا المكان!!
وإذ أُقلِّب صفحات الوحي أجد سيدي يعلِّمني أيضاً أن البغضة هي الأم الشرعية للقتل والمنشأ الأول لهذه الجريمة، القتل يبدأ داخل الإنسان بمشاعر الكراهية والاستهانة بالآخر، وإذ تترسب هذه المشاعر داخل قلب الإنسان وتتراكم وتتزايد وتتغذَّى وتتقوَّى بمناخ البغضة وثقافة الكراهية السائدة في مجتمعنا يتكوَّن لدينا «قاتل» جديد، إن لم يقتل بيديه فسوف يقتل بلسانه وبمشاعره وبأفكاره وبدعمه المادي والمعنوي للقاتلين، ولذلك يعلِّمني سيدي أيضاً أن الله يحسب البغضة قتلاً ويعتبر مَن يقبل مشاعر سلبية تجاه الآخرين أنه مستوجب نار جهنم!!

وإذ أعترف أن كلمات الوحي هي الحق الكامل والنور الحقيقي الذي ينير الواقع الحاصل في بلدي، وإذ أُصادق على أن مناخ الكراهية للغير والاستهانة بمعتقدات الآخر هو الجذر لكل القتل والموت الذي نشده اليوم في كل مكان، أجد نفسي أتضرع أمام عرش النعمة: «إملأني يا سيدي بروح المحبة والفرح والسلام، روح الحياة الذي يبذر بذور الخير في كل مكان، روح محبة الأعداء ومباركة اللاعنين، روح الوداعة التي تقبل الآخر وتحترم فكره حتى وإن اختلف عن فكري، فروحك المبارك هو وحده القادر أن يقف ضد روح القتل والموت المنتشر في بلادنا، ولا تسمح يا سيدي أن يُكتب في بطاقة هويتي في أي يوم من الأيام وبأي معنى من المعاني: المهنة قاتل»!!

السبت، 5 أبريل 2014

أحاديث من القلب


يا صـاحب !!
فخرى كرم

«يا صاحب، لماذا جئت؟ يا يهوذا، أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان؟» (مت26: 50، لو22: 48)

يا صاحب!! نعم، لقد اخترتك منذ ثلاث سنوات لكي «تصاحبني» في كل تفاصيل حياتي اليومية، أدخلتك إلى الدائرة الضيقة من تلاميذي واستأمنتك على ما يخصني، كنت أقصد من وراء هذا أن ترى فيَّ ما يجعلك تحبني وتختارني نصيباً لك وتقرِّر أن ترفض عبوديتك للمال وتختار أن تكون ابناً حقيقياً لله وتلميذاً أميناً لي، لكنك للأسف قرَّرت أن تظل كما أنت: مجرد صاحب!!

لماذا جئت؟! لقد انتهت مصاحبتك لي هناك في العلية عندما قدمت لك آخر أعمال محبتي وأنت رفضتها، لابد أن تعلم أن الإبن فقط هو الذي يبقى في البيت إلى الأبد أما «الصاحب» فلابد أن تأتي لحظة حين لا يستطيع أن يكمل المسير معي، أنا هنا الآن لكي أُكمل مشيئة أبي أما أنت فقد اخترت أن تصنع مشيئتك، لا يمكن ان تصاحبني فيما بعد، فلماذا جئت؟!

أبقبلة تسلِّم ابن الانسان؟! هل إلى هذه الدرجة يمكن أن يكون الانسان مخادعاً؟! هل علَّمك الشرير كيف تغلِّف أحط خيانة بأرق مشاعر؟! ألم تتعلم مني في كل هذه السنين كيف تكون صادقاً وأميناً؟! كيف استطعت أن تضيِّع كل هذه الفرص للتعلُّم والتغيُّر؟! كيف يستطيع الإنسان أن يفقد كل الفرص المقدمة له للخلاص ويخسر كل أعمال المحبة التي تعتني به في كل يوم؟! علَّمتك أن يكون كلامك نعم نعم ولا لا، فكيف تأتي اليوم لتسلِّم ابن الإنسان للموت بقبلة محبة؟!

يا صاحب، لقد كان ولاؤك دائماً لنفسك وسعيك دائماً لمصلحتك، لم تستطع أبداً أن تتحرَّر من أسر ذاتك وقيود أنانيتك، ظللت تصاحبني طالما كانت هناك مصالح في السير معي ولكن عندما بدأت سفينتي تتعرض للأمواج الصاخبة والرياح المضادة قررت أن تقفز من السفينة وتنجو بنفسك بأي مكسب تستطيع الحصول عليه، لكني أريدك أن تعلم أن سفينتي مهما تعرضت للمقاومة والإضطراب فلابد أن ترسو يوماً بآمان على الشاطئ لأني في كل حين أفعل مشيئة الذي أرسلني، أما مَن يقفز من سفينتي فهو يلقي بنفسه إلى أعماق الظلمة حيث لا فرصة قط للنجاة!!

 يا صاحب، ربما كنت تخدع نفسك بأنك تستطيع أن تتوب وترجع إذا تحسنت الأحوال وهدأت الأمواج، لكن للأسف أريدك أن تعلم أن مَن أُستنير مرة وذاق الموهبة السماوية وصار شريكاً للروح القدس وذاق كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي ثم قرر أن يسقط ويرتد لا يمكن تجديده أيضاً للتوبة، لأن الأرض التي شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة وأخرجت شوكاً وحسكاً فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة، ستندم وتشعر بالخسارة لكنك لن تعرف طريقاً للرجوع لأنك رفضتني أنا الطريق والحق والحياة، وستشعر يومها أنه كان من الأفضل لك لو لم تُولد!!

يا صاحب، يؤسفني أن هناك الكثيرين الذين سيتبعون طريقك ويسلكون مسلكك في كل أجيال الكنيسة، «يصاحبون» المؤمنين الحقيقيين في حياتهم وعبادتهم وخدمتهم، لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها، يملأون الكنائس طالما هناك مصلحة وعند أول اضطراب أو اضطهاد يتحينون الفرصة للقفز من السفينة، كم يعتصرني الحزن على مصيرهم وأشفع لأجلهم ليلاً ونهاراً لعلهم يتحولون إلى مؤمنين حقيقيين وتلاميذ أمناء لي قبل فوات الآوان!!   

الأربعاء، 5 مارس 2014

أحاديث من القلب


الاسم العجيب (76 الأخيرة)
فخرى كرم

بعد رحلة طويلة حاولنا فيها أن ندرس بعض الأسماء والألقاب التي أُطلقت على ربنا يسوع المسيح ها نحن نصل (ولو مؤقتاً) إلى نهاية هذه السلسلة من التأملات، ونريد أن نؤكد في الختام أننا لم نتطرق إلى كل أسماء ربنا المعبود ولم نحصر كل ألقابه له المجد، وربما نعود يوماً ما لإكمال دراستنا في هذا الاسم العجيب، لكننا شعرنا أننا تطرقنا للقدر الكافي من الأسماء الذي يقدم للقارئ العزيز الحقيقة الخالدة الذي نطق بها الرسول بطرس:

«ليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسمٌ آخر تحت السماء

قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 12)

الرسول يؤكد هنا أن اسم يسوع هو الاسم الوحيد الذي يمكننا أن نخلص به، إنه ليس مجرد اسم عَلَم كالذي يُطلق على سائر البشر للتعريف بهم، لكنه اسم يكشف عن حقيقة شخصه وعمله وقدرته على خلاص البشر، لقد أردنا في المقالات السابقة أن نقول للقارئ العزيز أنك تحتاج إلى أن تتعرف على «عمانوئيل» لكي تعرف الله الحقيقي وتدخل في شركة معه فتخلص من كل الضلالات والديانات التي تقدم صور مزيفة ومغلوطة عن الله، بدون «عمانوئيل» الذي تفسيره الله معنا لا يمكنك أن تقترب إلى الله أو تتعرف عليه!!

كما أنك تحتاج أن تعرف «يسوع» لكي تخلص من خطاياك، فيسوع هو الاسم الذي أُطلق على ربنا في ميلاده على الأرض لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا الخلاص لا يعني الخلاص فقط من أجرة الخطية بل أيضاً من سلطانها وقوتها على حياتك!!

وأنت تحتاج بشدة أن تدخل في شركة مع «المسيح» لأنه الممسوح من الله نبياً وكاهناً وملكاً لحياتك، بدونه لن تستطيع أن تستقبل فكر الله لحياتك لأنه الممسوح الوحيد من الله نبياً لحياتك، وبدونه لن تستطيع أن تقترب إلى الله بعبادة مقبولة لأنه الممسوح من الله كاهناً لحياتك، وبدونه لن تستطيع أن تحيا ضمن ملكوت الله لأنه الممسوح ملكاً على حياتك!!

وأنت تحتاج أن تعرف «الكلمة» المعبِّر عن فكر الله والشارح والمعلن عن جوهره، وتحتاج أن تعرف «الابن» الشريك في ذات جوهر الله والوارث لكل مجده، وتحتاج في ذات الوقت أن تعرفه «ابن الإنسان» الذي اشترك معنا في اللحم والدم وشاركنا في كل آلامنا وأوجاعنا تاركاً لنا مثالاً لكي نقتفي خطاه، وتحتاج أن تعرفه «العبد» الذي أطاع وخدم الآب على الأرض بشكل كامل مقدماً لنا نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه حياتنا وعبادتنا، وأنت تحتاج أن تعرفه «ملك الملوك ورب الأرباب» لكي تعيش حياتك برجاء مجيئه مرفوع الرأس والعين عن كل ممالك الأرض ومجدها المزيف!!

وهذه المعرفة بصاحب هذا الاسم العجيب كلما ازدادت يوماً بعد يوم سيزداد خلاصك وتحررك من الفخاخ والضلالات والانحرافات الروحية والسلوكية والعقائدية التي أصبحت كثيرة جداً في أيامنا الأخيرة هذه، وكما حفظ يسوع تلاميذه «في اسم» الآب عندما كان معهم على الأرض (يو17: 12) أستودعك عزيزي القارئ للحفظ والحماية «في اسم» يسوع، الجالس الآن عن يمين العظمة في الأعالي، له كل المجد لأبد الدهور!!  

الأربعاء، 5 فبراير 2014

أحاديث من القلب


الاسم العجيب (75)
فخرى كرم

قلنا أن ملكوت ربنا يسوع المسيح الذي سيُعلن في مجيئه الثاني سيختلف جذرياً عن أي ملكوت آخر عرفته الأرض، فمن جهة الشرعية هو يستمد شرعيته من الله وليس الناس، ومن جهة الامتداد هو يمتد مادياً ليشمل كل المسكونة ويمتد روحياً ليضم كل النفوس البشرية والأجناد الروحية الصالح منها والشرير!! واليوم نضيف أن هذا الملكوت سيختلف أيضاً في:

(3) طبيعة الملكوت

ملكوت المحبة والخدمة: طبيعة أي ملكوت على الأرض هي القوة الحاكمة والتسلط على الناس والتحكُّم في مصائرهم، وتُقاس قوة أية مملكة بقدرتها على إخضاع شعبها والتحكم فيه، وقد لخَّص ربنا هذه الحقيقة عندما قال لتلاميذه «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم» ولكن ربنا يستطرد ليشرح لتلاميذه طبيعة ملكوته المختلفة تماماً «فلا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً، كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت20:  25-28) لأول مرة ترى الأرض ملكاً يسود شعبه بسبب محبته وخدمته لهم وليس بسبب التسلط عليهم وقهرهم!! وليس هذا لنقص في قوة هذا الملك فربنا لديه القوة لإخضاع كل أطراف الأرض والسموات لشخصه لكن السبب هو اختلاف طبيعة هذا الملك السماوي عن كل ملوك الأرض، إنها طبيعة الحب والتضحية وليست طبيعة السيادة والتسلط، طبيعة العطاء وليس الأخذ!!

ومن الشاهد الموجود في (في2: 5-11) نعلم أن ربنا لم يرتفع ويأخذ اسماً فوق كل اسم وتجثو باسمه كل ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ويعترف بربوبيته كل لسان إلا لأنه أولاً تنازل وأخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وطائعاً حتى الموت موت الصليب، إنه المُلك المؤسس على التواضع والخدمة وليس على الكبرياء والتسلط!!

ملكوت السلام والحق والبر: من أعظم النبوات التي تحدثت عن ملكوت ربنا هي الواردة في (أش9: 6، 7) «لأنه يُولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر»  إن سبب غياب السلام من ممالك الأرض هو غياب الحق والبر، شعور الناس بالظلم والفساد يدفعهم للعنف والتمرد، أما طبيعة ملكوت ربنا يسوع المسيح فهي السلام والسبب هو أنه يثبِّت مملكته على الحق والبر!! وهذا ما أكده الرسول بولس في قوله لأهل رومية «لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (14: 17) لأن ملكوت الله مؤسس على البر والعدل فلابد أن يسوده السلام والتوافق ويمتلئ أفراده بالفرح والسرور!!

إن الأرض لن ترى هذا الملكوت الرائع إلا في مجيء ربنا الثاني لكن المؤمنين بالمسيح يستمتعون الآن بالوجود في هذا الملكوت بهيئته الروحية غير الظاهرة للعالم، طوبى لكل مَن دخل هذا الملكوت ويوجد فيه، وللحديث بقية (يتبع)