بلاغة السكوت (7)
فخرى كرم
«وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء» (لو23: 9)
كان
هيرودس يريد من زمان طويل أن يرى يسوع لكن كبرياءه الملكي منعه من أن يذهب إليه،
كان يريد أن يراه ويسمعه ويبصر آياته لأن ضميره المُثقَّل بمقتل المعمدان كان
يطارده بفكرة أن يسوع ليس سوى يوحنا المعمدان وقد عاد للحياة ولذلك تُعمل به القوات
(مت14: 1، 2) وعندما حانت الفرصة وأرسل بيلاطس إليه يسوع مُقيداً ومُتهماً فرح
هيرودس جداً واعتبر أن الوقت قد حان لكي يستريح ضميره من عناء الشكوى ويقف على
حقيقة هذا الشخص الغريب الذي سمع عنه كثيراً، ولذلك ما إن وقف أمامه يسوع حتى
بادره بأسئلة وكلام كثير، ولكن كانت المفاجأة أن يسوع التزم الصمت ولم يجبه
بشيء!!
عدة
أمور كانت تدفع الرب للرد على أسئلة هيرودس، أولها وجوب الخضوع للسلطة الحاكمة،
فالرب يقف هنا موقف المتهم أمام الحاكم الذي يملك سلطة ادانته أو تبرئته، والمتهم
في تلك الأزمنة القديمة لم يكن يملك ترف أن يختار بين أن يجيب أو لا يجيب عن أسئلة
الحاكم، وثانيها الرحمة المعروفة عن ربنا والتي تدفعه للتجاوب مع نفس متعبة تحتاج
أن تسمع منه ما يشبع فضولها ويبدد حيرتها، وثالثها أن يتجنب إثارة غضب الثعلب
الكامن في أعماق هذا الحاكم المنفلت الأخلاق، فالرب يعلم تماماً أن بداخل هيرودس
وحشاً إذا غضب سيتحول إلى النهش والإهانة بدون وازع من عقل أو ضمير، ورغم كل هذه
الدوافع يفاجئنا الرب بالصمت التام!! كان سكوت سيدنا في هذا الموقف بليغاً جداً
كما تعودنا منه، وإن كنا قد تعلمنا منه درس ألا نتكلم حين لا يكون للكلام فائدة
ففي هذا الموقف نتعلم منه درساً آخر:
† ثانياً: لا كلام جديد مع مَن استهان بالكلام الأول!! في يوم من الأيام أرسل الله يوحنا المعمدان ووضع في
فمه رسالة خاصة لهيرودس الملك الماجن، كان ملخص الرسالة أنه: لا يحلُّ أن تكون له هيروديا
امرأة أخيه (لا18: 16) ولا شك انها نعمة جزيلة وامتياز عظيم أن يرسل الله رسالة
إلى إنسان لكي يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الخطية والفساد، وأن تكون هذه الرسالة على
فم نبي هو الأعظم بين المولودين من النساء فهذا يجعل النعمة مضاعفة والامتياز
أعظم، لكن هيرودس لفرط ضعفه أمام شهوته قرر ألا يخضع لهذه الرسالة السماوية، ولشدة
خضوعه لسلطان هيروديا امرأة أخيه فيلبس قرر أن يلقي بيوحنا في السجن لكي لا يعود
يتجرأ ويتكلم معه بمثل هذه الرسالة، وفي يوم أسود من تاريخه وتحت تأثير نفس الشهوة
ونفس الامرأة قرر أن يقطع رأس يوحنا المعمدان، الرأس التي اهتمت بصالح حياته
الزمنية والأبدية، الرأس التي حملت له فكر الحق الإلهي وطريق البر العملي، هذه
الرأس المباركة قرر هيرودس أن يمد يده الأثيمة ويقطعها، لقد مزَّق الرسالة وداسها
بقدميه ثم تحوَّل ليقطع رأس الرسول لكي لا يعود يحمل له المزيد من الرسائل
الإلهية!!
وتدور الأيام ويجد هيرودس نفسه أمام رب يوحنا المعمدان
ومُرسله، فيسوع هو صاحب الرسالة التي أعطاها ليوحنا وأرسله أمامه ليُعدُّ له
الطريق، انه بذاته جوهر الحق الذي نطق به يوحنا ورفضه هيرودس ومزَّق المتكلم به شرَّ
تمزيق، والآن هيرودس يتكلم كثيراً ويحاول أن يجعل يسوع يتكلم معه، يسأله كثيراً
ويُبدي شعوراً مزيفاً بأنه يريد أن يسمع منه إجابات شافية وحقائق وافية، لكن سيدي
بصمته البليغ كان يقول له ولنا بصوت عالٍ كالرعد «لا كلام جديد مع مَن رفض واستهان
بكلامي الأول»!!
ألا يحمل لنا
سكوت السيد درساً مهماً في أيامنا هذه؟! ألا نختبر كثيراً صمت السماء عن كلام جديد
والسبب أننا لم نكن أمناء بما يكفي في الكلام الأول الذي قيل لنا؟! ولكن لهذا حديثاً
آخر (يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق