بلاغة السكوت (8)
فخرى كرم
«فقال لهم يسوع: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا» (لو20: 8)
ليس بالضرورة أن
يكون السكوت هو عدم النطق بأي كلام على الإطلاق لكنه أحياناً يكون عدم النطق
بالكلام الذي يريد الآخرون أن يسمعوه!! في الموقف الذي أمامنا كان يسوع في الهيكل
يعلِّم الشعب ويبشِّر فوقف رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ وسألوه قائلين «بأي
سلطان تفعل هذا؟ أو مَن هو الذي أعطاك هذا السلطان؟» وبدلاً من أن يجيبهم الرب
سألهم سؤالاً يحتاج إلى إجابة بكلمة واحدة «معمودية يوحنا من السماء كانت أم من
الناس»؟ وعندما أجابوه بأنهم لا يعلمون من أين كانت معمودية يوحنا قرَّر يسوع أن
يسكت ولا يجيبهم عن سؤالهم بل ويُزيد حيرتهم وجهلهم!!
ولكي نفهم بلاغة
سكوت الرب في هذا الموقف لابد أن نرجع إلى إرسالية يوحنا ومعموديته، لقد أرسل الله
يوحنا برسالة التوبة للشعب، ولم يؤيد الله يوحنا بأي سلطان ملموس مثل الآيات
والمعجزات لأن رسالته تستمد سلطانها من الشريعة والناموس، فهو لم يأتي بأية تعاليم
جديدة بل كان يدعو الشعب للعودة لتعاليم وسلوكيات الناموس، وحتى طقس المعمودية
الذي مارسه لم يكن جديداً بالمرة بل هو مستمد من حادثة شفاء نعمان السرياني عندما
أمره إليشع أن يغطس في نهر الأردن سبعة مرات فعاد لحمه كلحم صبي صغير، أراد يوحنا
أن يستخدم نفس الممارسة لكي يطبع في ذهن الشعب أن خطاياهم تشبه البرص القاتل الذي
ينبغي أن يتخلصوا منه بالتوبة لكي تسترد الأمة عافيتها وتعود لقوة ونقاء صباها
وشبابها المبكِّر!!
السلطان الوحيد
الذي صاحب إرسالية يوحنا كان سلطان تبكيت الروح القدس على نفوس الشعب، إذ يقول
الكتاب «أن جميع الشعب إذ سمعوا والعشارين برَّروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا»
(لو7: 29) لكن للأسف رغم هذا السلطان المؤثر ورغم الرسالة التي تستمد تأييدها من
جوهر الناموس ولا تحتاج لأي تأييد خارجي إلا أن الكتاب يخبرنا «أما الفريسيون
والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه» (لو7: 30) كبرياء
هذه الفئات من الشعب واعتدادهم ببرهم الذاتي جعلهم لا يخضعون لمعمودية يوحنا لأنها
تحتِّم عليهم الاعتراف بأنهم خطاة يحتاجون للتطهير، ورغم أنهم لم يستطيعوا أن
يتهموا يوحنا بأية تهمة ولم يتجاسروا أن يقولوا أن معموديته ليست من السماء إلا
أنهم أيضاً لم يخضعوا لها!!
كانت خدمة يوحنا
ومعموديته تمهيداً وإعداداً لخدمة يسوع وإرساليته، وكانت إرسالية يسوع مؤيدة
بالآيات والعجائب لأنها تحتوي على تعاليم جديدة لا تستمد سلطانها من الناموس بل
ترتفع فوقه بمراحل، ولكن رغم كل التأييد المعجزي لإرسالية الرب لم يخضع رؤساء
الشعب لإرساليته، لأن رؤساء الشعب لم يقبلوا إرسالية يوحنا فكان لابد بالضرورة ألا
يقبلوا إرسالية الرب المؤسَّسة على إرسالية يوحنا والمبنية عليها، رفض مشورة الله
رغم وضوحها وتأثيرها يجعل الإنسان غير مؤهل لفهم أية مشورات جديدة، وعندما قرّر
الرب أن يسكت ولا يجيب عن سؤال رؤساء الشعب كان يؤكد على الحقيقة التي تكلمنا عنها
المرة السابقة ألا وهي: لا كلام جديد مع مَن رفض الكلام الأول، ولا فهم جديد
لمشورات الله لمن رفض مشورة الله الأولى من جهة نفسه!!
كم هو مخيف ان
تسكت السماء ولا تجيب على حيرة قلب الإنسان، كم هو مخيف أن يترك الله الإنسان
يتخبط في جهله وظلمته لأنه رفض مشورة الله الأولى من جهة نفسه!! لا تسمح يا سيدي أن
يأتي يوم أرفض فيه مشورتك من جهة نفسي، ولا تسمح أبداً أن يأتي يوم ترفض فيه أن
تتكلم معي!! وللحديث بقية (يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق