الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (31)
بقلم : فخرى كرم

«لتكن مشيئتك» (مت6: 10)
أعلن الكتاب المقدس منذ البدء عن مشيئة الله الصالحة للإنسان، عندما خلقه على صورته وغرس له جنة ووضعه فيها ومنحه سلطاناً على كل الأرض والمخلوقات، لم يكن الإنسان يحتاج إلى دلائل أكثر من هذه ليتيقن أن الله يحبه ويريد له الخير، وهذا اليقين كان بلا شك سيدفعه إلى حياة تتكل بالتمام على مشيئة الله الصالحة وتسعى لتحقيقها.
لكن إبليس تدخل في العلاقة بين الله والإنسان ساعياً لإفشال المشيئة الإلهية الصالحة للإنسان، وكان جوهر التجربة هو إلقاء الشك في قلب الانسان تجاه صلاح مشيئة الله، فعندما سألت الحية حواء «أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة»؟ كان الهدف من السؤال هو بث روح الشك في صلاح الله وتصويره كمن يسعى لحرمان الانسان وتعذيبه، فالإله الذي يغرس كل شجر الجنة ثم يأمر بعدم الاقتراب منه هو بالتأكيد إله يتلذذ بتعذيب خليقته!! ورغم أن حواء كانت تعلم أن هذه الكلمات خاطئة ولا تعبِّر عن الحقيقة إلا أن روح الشك المسمومة التي غلفت السؤال كانت قد نفذت فعلاً إلى قلبها!!
وهنا تقدمت الحية لتثبيت وتأكيد الشك بداخل حواء بقولها أن الله يعلم أن الأكل من الشجرة سيؤدي إلى خير هو لا يريده لهما، وهذا الخير هو أن يصير الإنسان كالله عارفاً الخير والشر، وبالتالي يصبح قادراً على اختيار طريقه في الحياة من خلال معرفته بالخير والشر ولا يحتاج للاتكال على مشيئة الله له، اعتقاد الانسان أنه يعرف ما هو خير له وما هو شر يجعله يرفض التسليم لمشيئة الله أو على الأقل يجعله يقبل مشيئة الله بشرط توافقها مع ما يعتقده هو من معرفة بالخير والشر، وفي كلتا الحالتين يفقد الانسان قدرته على التسليم المطلق لمشيئة الله، فإما أنه لا يقول «لتكن مشيئتك» على الاطلاق وإما أن يقولها هكذا «لتكن مشيئتك بشرط توافقها مع معرفتي للخير والشر»!!
ومنذ أن سرى هذا السم في جسد الإنسان الأول ومنه انتقل لكل الجنس البشري ابتعد الإنسان بحياته عن طلب مشيئة الله وأصبح كل انسان يضع لنفسه مشيئات ذاتية يسعى لتحقيقها، واضعاً فيها كل ما يعتقد أنه خير ومتجنباً كل ما يظن أنه شر!! أصبح من النادر على مدار التاريخ البشري أن تجد انساناً يطلب مشيئة الله لحياته ويخضع لها، رغم أن تلك الحالات النادرة في التاريخ البشري أثبتت أن مشيئة الله للإنسان هي دائماً أفضل استثمار لحياته!!
حتى أتى ربنا إلى الأرض مكتوب عنه في درج الكتاب «أن أعمل مشيئتك يا إلهي سررت» (عب10: 7) وكان طعامه وشبعه أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله، لم ينطق إلا بما سمعه من الآب ولم يعمل إلا ما رأى الآب يعمل، وفي نهاية حياته على الأرض وعندما سارت الأحداث بطريقة تبدو متعارضة مع ما يعتقد الإنسان أنه «خير» وجدناه يقول للآب «ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت» (مت26: 39) وفي تسليمه الكامل لمشيئة الآب تحقق كل الخير والخلاص لكل البشرية!! وها هو يعلمنا في موعظة الجبل أن المؤمن المولود في ملكوت السماوات يتيقن بداخله أن مشيئة الله لحياته هي أفضل اختيار بالنسبة له لذلك فلسان حاله دائماً في الصلاة هو «لتكن مشيئتك»!! وللحديث بقية (يتبع)