السبت، 30 نوفمبر 2019

أحديث من القلب


موعظة الجبل (35)
بقلم : فخرى كرم

«واغفر لنا ذنوبنا» (مت6: 12)

بعد أن علَّمنا الرب أن نطلب خبز الكفاف لأجسادنا نجده يعلّمنا أن نعطي وقتاً في صلاتنا للاعتراف بخطايانا وطلب المغفرة من الآب السماوي، وهذه الطلبة تعبِّر عن احتياج أساسي لنفوسنا لا يقل أهمية عن احتياج أجسادنا للخبز، فأجسادنا تحتاج للخبز لتكتسب الطاقة اللازمة للنشاط الجسدي ونفوسنا تحتاج إلى الشعور بالغفران والتبرير لتكتسب الطاقة اللازمة للنشاط النفسي، وإذا كانت أجسادنا تحتاج للخبز عدة مرات في اليوم الواحد هكذا نفوسنا تحتاج للغفران والتبرير عدة مرات في كل يوم!!
إن طعام النفس هو الشعور بالدفء والأمان والمحبة، ولذلك فالشعور بالذنب والإدانة والرفض هو أقسى شعور تواجهه النفس البشرية، ويشبه تماماً شعور الجسد بالحرمان من الطعام، وإذا استمرت النفس لفترات طويلة تحت وطأة الإحساس بالذنب فإنها تضعف وتمرض بل وتموت!!
وإذا كانت صحة أجسادنا ترتبط بشكل مباشر بطبيعة وقيمة الطعام الذي نتناوله فصحة نفوسنا ترتبط أيضاً بطبيعة وقيمة التبرير الذي نشعر به، وكما أن تناول الإنسان لطعام مغشوش يصيب جسده بالأمراض هكذا أيضاً نفوسنا تمرض إذا تغذت على أنواع مغشوشة من التبرير!! والكتاب المقدس يكلمنا عن أنواع مغشوشة من التبرير قد يلجأ إليها الإنسان ليسد بها جوعه النفسي:
(1) التبرير الذاتي (لو18: 10-14): الكثير من الناس يتغذى على تبريره هو لذاته، ذهنه كل الوقت في حالة دفاع مستميت عن تصرفاته، وضميره دائماً يلتمس الأعذار لكل أخطائه، وفي نفس الوقت يتلذذ باصطياد الأخطاء للأخرين ليبدو أمام نفسه باراً، إنه مثل ذلك الفريسي الذي وقف في الهيكل يعدد محاسنه ويدين باقي الناس، ولقد وصف الرب بالحق صلاة ذلك الفريسي عندما قال إنه وقف ليصلي «في نفسه»!! أنها صلاة المنكفئ على ذاته، الباحث عن تبريره لذاته وليس عن تبرير الله له، إنه يصلي أمام نفسه وليس أمام الله، يهتم بأن يرضي ضميره ولا يعنيه رضا الله، إنه يغذي نفسه بطعام مغشوش لا يمكن أن يعطيه إشباعاً حقيقياً للنفس، ولذلك قال الرب أنه نزل إلى بيته دون الحصول على أي تبرير حقيقي!!
إننا لا نجد في صلاة الفريسي أي اعتراف بأية أخطاء، فبالنسبة لهذه النوعية من الناس يكون الاعتراف بالخطأ أمراً في منتهى الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً!! إنهم لا يريدون أن يظهروا أمام ذواتهم مخطئين، يخشون من احساسهم بالخطأ أكثر من خشيتهم من الخطأ نفسه!! يضعون لأنفسهم مقاييس وموازين للصواب والخطأ ويقيسون أنفسهم عليها، وعادة ما تكون هذه المقاييس مغشوشة وغاشّة ولكنهم يشعرون بالراحة متى توافقوا معها، أما مقاييس الله وموازينه فلا يعرفونها ولا يعنيهم أن يعرفوها!!
مأساة هؤلاء القوم أنهم في اليوم الأخير سيقفون للمحاكمة أمام الله وليس أمام ضمائرهم، وهناك سيكتشفون أنهم يحاسبون بحسب مقاييس الله وليس مقاييسهم، وحياتهم توضع في موازين الحق وليس موازينهم المغشوشة، وعندئذ سيكون عليهم أن يواجهوا الحقيقة المريرة التي عاشوا عمرهم كله يتجنبون مواجهتها، حقيقة أنهم خاطئون وغير مبررين أمام الله!! وللحديث بقية (يتبع)

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (34)
بقلم : فخرى كرم

«أعطنا اليوم» (مت6: 11)
بهذه الكلمات القليلة يُثبِّت الرب مبدأ هاماً في حياة أبناء الملكوت، وهذا المبدأ هو وجوب أن نعيش حياتنا ونحن نقسِّمها إلى وحدات اسمها «اليوم»!! فقوانا الذهنية والعصبية مُصممة لكي تحمل في اليوم الواحد مسئولية يوم واحد!! في كل صباح نشحذ قوانا لكي نحمل مسئولية «اليوم» الذي نعيشه، ومع المساء تكون قوانا قد استنفذت ونحتاج أن نخلد إلى السكينة والنوم لكي نعطي لأذهاننا وأعصابنا الفرصة للراحة وتجديد الطاقة، ومع اشراقة اليوم التالي ننهض بطاقات متجددة لمواجهة الوحدة الجديدة في مشوار حياتنا المُسماة «اليوم»!! ولقد كرر الرب في موعظة الجبل هذا المبدأ بشكل واضح عندما قال «لا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره» (مت6: 34)
ولو رجعنا للكتاب المقدس لوجدناه قد أرسى هذا المبدأ منذ البدء، عندما قسَّم الله عمله في الخليقة إلى وحدات تُسمى «اليوم»، فكل مرحلة من الخلق كانت تنحصر بين «مساء» و«صباح» يوم جديد، وبعد ستة أيام من العمل استراح الله في «اليوم» السابع، وعندما أعطى الله الناموس لشعبه القديم طالبهم أن يتبعوا نفس النظام الذي اتبعه هو في الخليقة، أن تنقسم حياتهم إلى وحدات هي «اليوم» وهذا اليوم ينقسم إلى «صباح» للسعي والاجتهاد و«مساء» للراحة وتجديد الطاقة، وبعد ستة أيام على هذا المنوال هناك «يوم» سابع ينبغي أن يستريحوا فيه من كل أعمال الجسد ويتفرغوا لتجديد طاقتهم الروحية ولطلب وجه الرب لمواجهة الأسبوع الجديد!!
وعندما أعطى الرب المن للشعب طوال رحلتهم في البرية كان يطالبهم أن يخرجوا باكراً في كل صباح ليلتقطوا لأنفسهم الطعام الذي يكفيهم ليوم واحد، كان يريدهم أن يتعلموا كيف يعيشون حياتهم متكلين على صلاح الله كل يوم، واثقين أنه سيمنحهم الخير الذي يكفيهم يوماً فيوماً، لكن الإنسان في زيغانه يريد أن يؤسس سلامه على ما في يديه وليس على ما في يدي الله!! ولذلك رأينا البعض من الشعب كان يجمع أكثر من احتياجه اليومي لكي يشعر بأمان تجاه الغد، ولكنه في الغد كان يجد أن الفساد قد انتشر في الطعام المخزون!!
 ولا يمكننا أن ننسى ذلك الغني الذي أثمرت كورته فجمع الثمر في مخازن أكثر وأوسع، وظن أنه سيجد شبعه وفرحه فيما اختزن بين يديه وليس في الله الصالح الذي جعل كورته تثمر بهذه الوفرة، واعتقد أنه جمع طعاماً يكفيه لسنين عديدة ولم يعلم أن هذا «المساء» في حياته لن يعقبه أبداً أي «صباح»!!
خلاصة القول أن ربنا يريدنا أن نتعلم كيف نكون بلا هم من جهة المستقبل، وأن نعتمد في سلامنا على صلاحه واحسانه اليومي وليس على ما نمتلكه في مخازننا، ان مراحم الرب جديدة في كل «صباح» ولابد أن نخرج لنلتقطها في كل «صباح» (مرا3: 23) عندما نقول للرب في صلاتنا «أعطنا اليوم» نحن نعلن ايماننا واتكالنا الكامل واليومي على صلاحه الذي لن يتركنا أو يهملنا أبداً، ونحن نعلن أننا سنعيش حياتنا كل يوم فيوم بسلام وطمأنينة لأننا نعلم أن كفايتنا هي بما في يدي الرب لنا وليس بما نختزنه نحن في أيدينا!! وللحديث بقية (يتبع)