الاثنين، 7 ديسمبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (46)

بقلم: فخري كرم 

«لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض» (مت6: 19)

ينتقل الرب بالحديث في موعظة الجبل إلى موضوع في غاية الأهمية ألا وهو «المال» وعلاقة أبناء الملكوت به، فالمال في المجتمع اليهودي كان قد صار سيداً ينافس الله في سلطانه على نفوس الناس، يرفع ويحط، يكرم ويذل، بل امتد سلطانه إلى داخل الهيكل حتى أصبح من يصعد إلى بيت الله كمن يذهب إلى مغارة لصوص!! وبينما كانت غالبية الشعب تحت خط الفقر كانت هناك صفوة في المجتمع تكتنز المال وتختزنه، وفي الوقت الذي ترى أرملة منسحقة تضع فلسين في خزانة الهيكل تستطيع أن ترى أيضاً في الجانب الأخر مَن يلقي بتفاخر فضة كثيرة ونحاساً!!  

وإذا نظرنا إلى مجتمعنا اليوم هل نجد اختلافاً عن المجتمع الذي عاش فيه ربنا؟ أليس المال هو السيد القاسي الذي يسود حياة الناس ويحدد مركزهم في المجتمع؟ أليس المال هو الإله الذي تنحني أمامه كل الجباه وتنسكب عند قدميه كل القيم والاخلاقيات؟ ألم يتسلل المال إلى داخل الكنيسة وصارت له كلمة نافذة فيها؟ ألا نلاحظ نفس التفاوت بين طبقة تشقى بحثاً عن سد الرمق وتجنب الجوع وطبقة تكتنز الأموال وتنفق ببذخ وسفه؟! إذاً نحن نحتاج أن نستمع إلى كلمات الرب هذه كما استمع إليها تابعو الرب على مدارج جبال الجليل.

شمل الرب في حديثه الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم والأغنياء الذين يكتنزون أموالاً تزيد كثيراً عن حاجتهم، وقدم للجميع سبعة أسباب منطقية تدفعنا لعدم اكتناز المال وعدم الخضوع لسلطانه:

(1) القابلية للفساد والزوال

السبب الأول الذي يقدمه الرب هو أن المال لا يمكننا الوثوق بثباته ودوامه، فهو قد يعتريه الفساد أو الزوال، ولقد عبر الرسول بولس عن نفس الحقيقة قائلاً «أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا و لا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتمتع» (1تي6: 17)

 الرب هنا يوجه حديثه لفئة الأغنياء من سامعيه ويحذرهم أن مَن يتكل على الغنى إنما يتكل على شيء «غير يقيني»!! فالمال قد «يُفسد» أي تزول قيمته وهو بين أيدينا أو قد «يُسرق» أي يؤخذ منا، ولقد رأينا في الفترة الأخيرة عدد من البورصات التي انهارت والعملات التي فقدت قيمتها في غضون ساعات، فعندما قامت حكومتنا بخطوة «تعويم الجنيه» اكتشف كل صاحب مال أن أمواله فقدت أكثر من نصف قيمتها في لحظة من الزمان، وعندما تفشى وباء الكورونا سبَّب خسائر رهيبة لأكبر الاقتصاديات في العالم، والأغنياء اكتشفوا فجأة أن سندهم قد اهتز والمال الذي اعتقدوه مرتكزهم تهاوى بهم، وأصبح شائعاً أن تقرأ عن صاحب مال أقدم على الانتحار لأنه لم يستطع احتمال فكرة أن أمواله قد فسدت أو فُقدت!!

في (لو12: 20) يسرد الرب لنا مثلاً يكشف فيه أن الاتكال على غير يقينية الغنى ليس تصرفاً خاطئاً فقط بل يرقى إلى مستوى «الغباء»!! لقد اعتقد الغني الذي أخصبت كورته أن في اكتنازه للمحاصيل ضماناً لسنين عديدة من السعادة والاستقرار، ولم يعلم أن المال لا يمكنه أن يضمن لنا يوماً واحداً من السعادة لأنه قد يؤخذ منا في أي وقت أو نؤخذ نحن منه، إن «غرور الغنى» يجعلنا ننسى أحياناً أن حياتنا مستمدة من الله وليس من أموالنا، وأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله (لو12: 15) في تلك الليلة أُخذت نفس الغني منه وبقيت أمواله وحدها تشهد للجميع أن المال لا يضمن لصاحبه أي شيء!! وللحديث بقية (يتبع)

 

الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (45)

بقلم : فخرى كرم

 

«ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين..» (مت6: 16-18)

نفهم من كلمة الله أن الصوم هو ممارسة تلقائية عفوية يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن التذلل أمام الله والاحتياج الشديد لغفرانه ونعمته وارشاده. ولأن الصوم ينبغي أن يكون تلقائياً نابعاً من الحالة القلبية والظروف الخاصة بكل انسان لذلك لم يفرض الناموس ضمن فرائضه الكثيرة أية أيام محددة للصوم أو طريقة خاصة تُتبع فيه. يوم واحد ذكره الناموس ينبغي أن يتذلل فيه الشعب كله هو يوم الكفارة العظيم، لأن في هذا اليوم كان رئيس الكهنة يدخل إلى الأقداس طالباً غفراناً للشعب عن خطايا سنة ماضية وملتمساً نعمة جديدة لسنة قادمة  (لا16: 29) ورغم أن شريعة يوم الكفارة لم تذكر الصوم صراحةً إلا أن الشعب كان يصوم عن الطعام في هذا اليوم تعبيراً عن تذللهم أمام الله، وهذا هو «الصوم» الذي يذكره لوقا الطبيب في (أع27: 9) ويذكره مُعرّفاً بحرفي التعريف «الـ» لأنه الصوم الوحيد المحدد التوقيت الذي يعرفه كل يهودي. ولكن بعيداً عن هذا اليوم الواحد نجد صفحات العهد القديم تمتلئ بأصوام كثيرة تذلل بها رجال الله القديسون طلباً لحضور الله في ظروفهم التي اجتازوا فيها، لم يكن لهذه الأصوام أي اسلوب ثابت بل كانت عفوية في كيفيتها ومدتها بحسب نوعية وإلحاح الظروف التي أحاطت بكل منهم.

وفي العهد الجديد لم يغير الرب أي شيء تجاه الصوم، لم يفرض على كنيسته أية أوقات أو أشكال محددة للصوم، لذلك نجده يقول «متى صمت..»، مازال الرب يريد أن يكون الصوم ممارسة عفوية نلجأ إليها تعبيراً عن اتضاعنا أمام الله ورغبة في مزيد من نعمته وإرشاده لحياتنا، فرأيناه (له المجد) يصوم عن الطعام أربعين يوماً ليتهيأ لمواجهة إبليس في تجربة الجبل (مت4: 2) وسمعناه يوصي تلاميذه بالصوم لمواجهة نوعية معينة من أرواح الشر (مت17: 21) وفي سفر الأعمال وجدنا التلاميذ يصومون كثيراً أثناء خدمتهم وقبل الدخول لأي مجال جديد في الارسالية (أع 13: 2، 3)

لكن الغريب والمدهش حقاً هو أن الإنسان استطاع أن يحول الممارسة التي من المفترض أن تعبر عن الاتضاع والتذلل إلى ممارسة تعلن عن التفاخر والتميز!! فعندما أتى ربنا إلى خاصته وعاش وسط شعبه الأرضي وجد أن القادة الدينيين قد وضعوا ترتيباً للصوم وحددوا له أياماً في الإسبوع وأمعنوا في حفظ هذه الأصوام لإعلان قداستهم وتميزهم عن بقية الشعب، حتى أن الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي واتته الجرأة ليرفع رأسه أمام الله ويفتخر بأنه ليس مثل باقي الناس الخطاة لأنه يصوم مرتين في الإسبوع (لو18: 12) بل حتى تلاميذ يوحنا المعمدان فرضوا على أنفسهم أصواماً كثيرة وكانوا يعيّرون تلاميذ الرب بأنهم لا يصومون مثلهم، حتى تقدموا يوماً إلى الرب متفاخرين وقائلين «لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون» (مت9: 14) عجباً!! كيف استطاع القلب الإنساني المخادع أن يحول الممارسة المعبرة عن الاتضاع والانكسار، والتي من المفترض أن تتم في الخفاء بتذلل أمام الله وحده، إلى مادة علانية للتفاخر والتمييز بين الفرقاء؟!

في هذا الجزء من موعظة الجبل لا ينفي الرب احتياجنا في العهد الجديد للصوم، لكنه يحذرنا بشدة من الانجراف وراء رغبتنا الذاتية في لفت الإنتباه والتعالي على الأخرين من خلال اعلان صومنا للناس، لأن هذا الصوم العلني سيكون هو والعدم سواء!! وللحديث بقية (يتبع)

الاثنين، 5 أكتوبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (44)

بقلم : فخرى كرم

«لأن لك المُلك والقوة والمجد إلى الأبد.آمين»(مت6: 13)

في هذه العبارة الختامية يضع ربنا الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه صلاتنا، وهو الإيمان الراسخ بأن إلهنا «يمتلك» ما نحتاج إليه و«قادر» أن يعطيه لنا بحسب غناه في «المجد»، وقوة صلاتنا وتأثيرها يتناسب مع قوة وثبات هذا الإيمان، أما إذا تعرض هذا الإيمان للإهتزاز تصبح صلاتنا فاترة لا قوة فيها.

المُلك: بديهياً أنه من العبث أن نطلب الأشياء ممن لا يملكها!! ولا شك أننا نذكر مقدار الاحباط الذي أصابنا ونحن صغار عندما طلبنا أشياء من آبائنا واكتشفنا أنهم لا يملكونها وبالتالي لا يستطيعون توفيرها لنا، فالطفل في سذاجته المفرطة يظن أن والده يستطيع أن يوفر له كل ما يريد، وربما يترك لخياله العنان فيطلب دراجة أو سيارة أو حتى طائرة!! إلى أن تصطدم طموحاته بالواقع المرير وهو أن والده لا يستطيع أن يعطيه هذه الأشياء لأنه ببساطة لا يملكها!! ويبدأ عندئذ يقلص طموحاته تدريجياً حتى تنكمش وتصير في حدود ما يملكه الأب. ما نطلبه في صلاتنا سيظل في حدود ما نؤمن أن آبانا السماوي يملكه!!

الإنسان بالغريزة يقدم الولاء والطاعة لمن يملك أن يعطيه ما يحتاجه من قوت ضروري، طلب إبليس من يسوع أن يسجد له لكي يعطيه ممالك العالم، فاذا اعتقدنا أن المال هو ما يضمن لنا اشباع احتياجاتنا فبالضرورة سوف نقدم خضوعنا للمال ساجدين في محرابه، وإذا اعتقدنا أن الشهوة هي التي تملك لنا السعادة فالبديهي أن نحرق أجسادنا على مذبحها النجس، أما إذا آمنا بأن الآب السماوي هو وحده من له «المُلك» وأنه وحده يعطينا طعامنا في حينه وهو يفتح يده فيشبع كل حي رضى فالطبيعي عندئذ أن تترجاه أعيننا ونرفع له صلاتنا بكل جرأة ويقين (مز145: 15، 16)

القوة: أحياناً لا تكمن مشكلة العطاء في «المُلك» بل في «القوة»!! فكم من آباء كانوا «يملكون» أشياء كثيرة ومع ذلك لم تكن لديهم «القوة» لاسعاد أبنائهم، وعاش الأبناء في فاقة وحرمان ليس لأن الأب لا يملك لكن لأنه يعاني من ضعف ما يجعله لا يستطيع أن يسخِّر ما يملكه لسعادة أبنائه، وقد يعود هذا الضعف الى جوانب كثيرة في شخصية الأب، فربما كان ضعفاً في المحبة لأبنائه بسبب فرط أنانيته ومحبته لذاته، أو ضعف في الحكمة يجعله لا يحسن وضع المال في مواضعه الصحيحة، أو ضعف في احساسه بالأمان الذي يجعله يلجأ لاكتناز المال وعدم انفاقه خوفاً من المستقبل المجهول..الخ. لكن يسوع يعلمنا هنا أن نقدم صلاتنا بثقة ويقين لأننا نؤمن أن آبانا السماوي لا «يملك» فقط ما نحتاج اليه لكن عنده أيضاً «القوة» اللازمة لتوصيل هذا الاحتياج إلينا، لا يوجد أي ضعف في شخص الآب السماوي يمنعه من تسديد كل احتياجنا، حاشا!! لا توجد قوة في السماء أو الأرض أو الجحيم تستطيع أن تمنع عنا خيراً يريد أبونا السماوي أن يعطيه لنا!!

«المجد»: إن ثقتنا في الآب السماوي ليست وليدة اللحظة ولا تستند على خبراتنا الخاصة فقط بل تستند على مجد ممتد عبر الأجيال والحقب، إن مجد إلهنا هو أنه «سامع الصلاة» الذي إليه يأتي كل بشر، إننا نؤسس ثقتنا في الصلاة على ما عرفناه من مراحم صنعها إلهنا لطالبيه عبر السنين، أن مجد إلهنا في استجاباته لصلوات قديسيه يعطينا الجرأة لنتقدم إلى داخل الأقداس طالبين كل ما نحتاج إليه بكل ثقة ويقين، إننا لا نتعامل مع آلهة الأمم الصماء التي لا تسمع بل مع إله حي تشهد صفحات الوحي عن مجده كسامع الصلاة ومستجيبها، له كل المجد (يتبع)         

الأحد، 6 سبتمبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (43)

بقلم : فخرى كرم

«ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير»(مت6: 13)

في بستان جثسيماني طلب الرب من تلاميذه قائلاً: «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف» (مت26: 41) وإذا وضعنا هذه الآية بجوار الآية موضوع تأملنا لوصلنا لاستنتاج حتمي: أن عدم دخولنا للتجربة لا يتحقق فقط بمجرد أن نطلب من الآب السماوي ألا يدخلنا في تجربة، بل ينبغي أن نسهر على حياتنا الروحية ونكون منتبهين ومراقبين للخيوط التي ينسجها العدو حولنا.

ان إرادة الآب السماوي العامة هي ألا ندخل في التجربة، لكن لابد أن تكون هذه هي إرادتنا أيضاً!! لا يمكن أن يحفظنا الله من الدخول في التجربة إذا كنا نحن نحبها ونتجاوب معها ولا نبالي بسلامة حياتنا الروحية!! ما معنى أن نصلي قائلين «لا تدخلنا في تجربة» ثم نضيع أوقاتنا في طرق هذا العالم ودهاليزه الممتلئة بكل فخاخ وأكاذيب العدو؟! ما معنى أن نطلب «احفظنا من الشرير» ونحن لا نغلق أبوابنا أمام الشرير ولا نصرف الوقت الكافي للتعلق بالرب والإحتماء به؟!

يسوع لم يكن يريد أن يدخل تلاميذه في تجربة الخوف والهروب والإنكار المشين الذي حدث ليلة الصليب، لكن هذا كان يستلزم منهم سهراً وانتباهاً وصلاة، ولما لم يقوموا بدورهم سارت الأمور بالشكل السيء الذي سارت به، ولا نستطيع أن نقول أن الآب هو الذي أدخلهم لهذه التجربة لكن هم دخلوها بسبب عدم يقظتهم الروحية وبسبب استسلامهم لضعف الجسد الذي يميل للراحة ويستهين بالخطر!! ولولا أن الرب كان متوقعاً منهم هذا الضعف وسبق فصلى لأجلهم لكي لا يفنى ايمانهم لسارت الأحداث إلى نهايات أسوأ بكثير!!

من يستطيع أن يلوم الرب لأنه لم يحفظ شمشون من التجربة التي أودت بحياته وهو بعد في شرخ الشباب؟ حاشا!! إن إلهنا غير ملوم البتة، لأنه أكثر من مرة أعلن عن إرادته الصالحة في حفظ شمشون من التجارب والفخاخ التي نصبها له العدو، بل وأخرجه منها بانتصارات ومكاسب!! ولكن الرب كان ينتظر من شمشون (وهو النذير المُستخدم من الروح القدس) أن تتوافق إرادته مع إرادة الله ويظهر اهتماماً بخدمته وسهراً على حياته الروحية ورغبة في النجاة من التجارب لكي يستطيع أن يتمم إرادة إله إسرائيل، وبالتالي يهتم بأن يتجنب مواضع الشبهات ويغلق النوافذ التي قد تتسرب منها التجربة، لكن للأسف وجدناه يستهين بكل شيء حتى بعهد انتذاره لله ويسكب وقته وقوته عند أعتاب الشهوة الرديئة!! في هذه الحالة لا نستطيع أن نقول أن دخول شمشون للتجربة كان بإرادة من الله لكن ينطبق عليه كلمات الرسول يعقوب «لا يقل أحد إذا جُرب إني أُجرب من قبل الله... لكن كل واحد يُجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته» (يع1: 13)

نفس الأمر نراه يتكرر في خطية داود مع إمرأة أوريا، هل نستطيع أن نتسائل لماذا لم يحفظ الله داود من هذه التجربة؟ أو لماذا أدخله الله إلى هذه التجربة التي عصفت ببقية حياته كلها وأعملت السيف والموت في كل أسرته؟! حاشا، إن الله لم يُدخل داود إلى هذه التجربة بل هو أدخل نفسه فيها باستسلامه لشهوات الجسد الذي جعله يستهين بكل المحظورات و يتعدى كل الحدود، في الوقت الذي كان ينبغي أن يسهر ويصلي رأيناه يصعد للسطح ليتسلى، وفي الوقت الذي كان ينبغي أن يتطلع باشفاق إلى خراف رعيته المسكينة نجده يتطلع بعين الذئب الباحث عن فريسة!! خلاصة القول أننا لا نستطيع أن نصلي قائلين «لا تدخلنا في تجربة» إلا إذا أرفقنا هذه الصلاة بحياة ساهرة ومتيقظة ومتحذرة من كل فخاخ العدو!! وللحديث بقية (يتبع)

الجمعة، 31 يوليو 2020

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (42)

بقلم : فخرى كرم

 

«ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)

قلنا أن ربنا يعلمنا في الجزء الأول من هذه الطلبة أن تكون صلاتنا الدائمة هي أن يحفظنا الله من الدخول في التجارب التي يحيكها العدو حولنا كل الوقت لتدمير حياتنا، ولكن الرب يعود ويستدرك في الجزء الثاني من الطلبة معلناً أن الآب السماوي قد يسمح لنا أحياناً بالدخول في التجربة، وفي هذه الحالة تكون صلاتنا أن ينجينا الله من مقاصد العدو الشريرة من وراء التجربة. وهنا لابد أن يبرز في أذهاننا سؤال: لماذا يسمح الآب الصالح أن ندخل في تجربة يهدف من ورائها العدو لتدمير حياتنا؟! وكلمة الله تجيب عن هذا السؤال في أكثر من موضع بأن هدف الله من اجتيازنا في التجربة هو تزكية إيماننا.

يقول الرسول بطرس «الذي به تبتهجون مع أنكم الآن إن كان يجب تُحزنون يسيراً بتجارب متنوعة لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح» (1بط1: 6، 7) تؤكد كلمة الله هنا أننا قد نجتاز في تجارب متنوعة (متنوعة في طبيعتها: آلام جسدية أو ضغوط نفسية أو حروب روحية أو ظروف خارجية...) وهذه التجارب تسبب لنا الحزن والضيق وتستهدف في المقام الأول تدمير علاقتنا مع الله، لكن الله يسمح لنا بالدخول في هذه التجارب لأنه يريد أن يجعل إيماننا به أكثر نقاءً وثباتاً، تماماً مثل الذهب الذي يحتوي أحياناً على بعض الشوائب التي لا يمكن اكتشافها والتخلص منها إلا بأن نضع الذهب في النار!!

 أدرك أيوب هذا الحق في عمق آلامه وتجربته فقال «لأنه يعرف طريقي، إذا جربني أخرج كالذهب» (أي23: 10) رغم آلاف السنين التي تفصل بين أيوب وبطرس إلا أن الوحي استخدمهما لاعلان نفس الحق: أن الله يرى في إيماننا قطعة ثمينة من الذهب تحتاج باستمرار أن تجتاز في النار لكي تصير أكثر قيمة ولمعاناً!! وادراك هذا الحق على مر الأجيال كان هو الملجأ والصخرة التي حفظت إيمان أبناء الله في قلب بوتقة الألم ونيران التجربة!! وتشبيه الإيمان بالذهب هو تشبيه عبقري يحمل العديد من المعاني:

(أولاً) أن قيمة الذهب ومجده يرتبط مباشرة بدرجة نقائه وطهارته، وكذلك قيمة إيماننا وقدرته على التأثير في حياتنا وحياة الأخرين هو في قدرتنا على اجتياز التجارب بنجاح، أما إذا كنا لا نريد أن نجتاز في التجارب فنحن نحكم على أنفسنا بأن نظل أطفالاً في علاقتنا بالله ليس لنا تأثير أو وزن في العالم الروحي.

(ثانياً) لابد أن نتأكد أن قصد الله وراء ادخال الذهب إلى النار هو دافع صالح يهدف للخير وليس للشر، ابليس يحاول في أثناء التجربة أن يحيطنا بمناخ من التذمر والشكاية على أنفسنا أو على الأخرين أو على الله، ليتنا نتعلم أن نرفض مناخ الشكاية هذا ونتمسك باليقين في صلاح إلهنا، فهذا اليقين هو الحصن الذي يحفظ ايماننا في مثل هذه الأوقات الصعبة!!

(ثالثاً) النار التي يوضع فيها الذهب تكون محسوبة بدقة، لا يمكن أن تقل أو تزيد في درجتها أو مدتها، كذلك نحن لسنا متروكين للمجرب يفعل بنا ما يشاء بل كل شيء مقدر ومحكوم في يد مَن معه أمرنا!!

(رابعاً) النار مؤقتة وتنتهي بانتهاء المقصود منها أما النقاء الذي يكتسبه الذهب فأبدي، يظل يتألق ويثمر إلى الأبد، وهذا ما قاله الرسول «لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً» (2كو4: 17) فالضيقة وقتية أما المجد فأبدي!! وللحديث بقية (يتبع)


الجمعة، 3 يوليو 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (41)
بقلم : فخرى كرم

«لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)
تكلمنا عن مفهوم التجربة وعرفنا أنها ترتيب شيطاني يهدف لاجتذابنا للوقوع في الخطية والإنفصال عن الله، وبهذا المفهوم يكون من البديهي أن نصلي لكي لا ندخل في تجربة، لكن عبارة «لا تدخلنا في تجربة» تحمل معنى أعمق، أنها تعني أن دخولنا في التجربة أو عدم دخولنا هو تحت سلطان الله المطلق، فرغم تأكيدنا أن الرب ليس هو مصدر التجربة لأنه إله صالح لا يجرب أحداً بالشرور، ورغم يقيننا بأن سقوطنا في التجربة هو بسبب انجذابنا نحن وانخداعنا من شهواتنا غير المحكوم عليها (يع1: 13-15) إلا أننا لابد أن نتأكد تماماً من سلطان الله المطلق على كل الأمور، فإلهنا له مطلق السلطان على إبليس وترتيباته ويستطيع أن يمنعه إن شاء أو يضع له حدوداً لا يتجاوزها، كما أن إلهنا له مطلق السلطان علي قلوبنا وظروفنا ويستطيع أن يمنع دخولنا التجربة أو يسمح لنا بدخولها، وإلا فما المعنى أن نصلي قائلين «لا تدخلنا في تجربة» إن كان الله ليس مسئولاً عن دخولنا في التجربة أو عدم دخولنا؟!
وهذا يقودنا إلى أن نسأل: هل معنى هذا أن الله قد يسمح أحياناً أن ندخل في تجربة؟ والإجابة كما نجدها في كلمة الله هي بالتأكيد «نعم»!! وهذا يعطينا فهماً لحرف الاستدراك «لكن» الذي وضعه الرب بين الطلبة الأولى والطلبة الثانية، فبعد أن أوصانا أن نصلي الطلبة الأولى: «لا تدخلنا في تجربة» نجده يستخدم حرف الإستدراك «لكن» والذي يعني أنه أحياناً قد يسمح أبونا السماوي أن ندخل في تجربة، وإن كان هذا هو الإستثناء وليس القاعدة، وفي هذه الحالة ينبغي أن نطلب الطلبة الثانية: «نجنا من الشرير»!! أي أننا يمكننا أن نقرأ هذا المقطع من الصلاة هكذا: «لا تدخلنا في تجربة، ولكن إذا سمحت عنايتك بأن ندخل التجربة فلتنجنا من مشورة الشرير ومقاصده وتعطنا نصرة على هذه التجربة»!! فلو كانت الطلبة الأولى: «لا تدخلنا في تجربة» مُستجابة دائماً طوال الحياة فلا معنى إذاً للطلبة الثانية: «نجنا من الشرير» لأننا لن نواجه الشرير أبداً طالما لن ندخل في التجربة أبداً!!
الحق الكتابي المستقيم يعلِّمنا أن الله في حكمته الأبدية قد يسمح أحياناً أن نجتاز في تجارب متنوعة، ليس لكي نسقط في الخطية، حاشا، بل لكي يُمتحن إيماننا ويتزكى، ويُنشئ الروح فينا صبراً وعملاً تاماً لنكون تامين وكاملين غير ناقصين في شيء، وفي النهاية ننال إكليل الحياة (يع1: 2-12) (1بط1: 6، 7) فلو كانت حياتنا خالية دائماً من التجارب فستكون خالية أيضاً من الانتصارات!! والكتاب يعلمنا أن هذه التجارب تكون خاضعة دائماً لسلطان الله وحكمته وتقديره بحيث لا تزيد عن احتمالنا ولا تخرج عن أهدافها ويكون معها دائماً المنفذ (1كو10: 13) فرغم أن إبليس يرتب لنا التجربة لكي يدمر حياتنا إلا أن إلهنا عندما يسمح بأن ندخل هذه التجربة يكون قصده أن نتعلق به أكثر فيزداد إدراكنا الروحي وتتعمق شركتنا معه أكثر، وبالتالي نخرج من هذه التجربة وقد إزداد نقاء إيماننا كما يزداد لمعان الذهب حين يجتاز في النار!!
أحياناً يرى الآب السماوي أن التجربة التي يرتبها ابليس لنا أكبر من قامتنا الروحية وقد نسقط إذا دخلنا فيها، عندئذ يستجيب أبونا السماوي للطلبة الأولى ولا يدخلنا في التجربة، ولكن أحياناً أخرى قد يرى أبونا السماوي أن عمله فينا يكفي للانتصار إذا دخلنا في التجربة وعندئذ يستجيب للطلبة الثانية ويسمح بأن ندخل في التجربة لكنه ينجينا من الشرير، فنخرج من التجربة أكثر نقاءً وإيماناً وانتصاراً!! وللحديث بقية (يتبع) 

الاثنين، 1 يونيو 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (40)
بقلم : فخرى كرم

«ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير» (مت6: 13)

بعد أن علَّمنا سيدنا أن نطلب من الله احتياج أجسادنا من «خبز» واحتياج نفوسنا من «غفران»، ها هو يعلمنا أن نطلب أيضاً احتياج أرواحنا للنجاة من «التجربة» ومن «الشرير». ولكي نفهم أبعاد هذه الطلبة لابد أن نفهم أولاً بعض الحقائق الكتابية الهامة:
ما هي التجربة؟
نفهم من كلمة الله أن التجربة هي الظروف والأحداث التي يرتبها إبليس لكي يدفعنا للسقوط في الخطية والابتعاد عن الله، فلا يوجد منشأ للتجربة إلا إبليس ولا يوجد هدف للتجربة إلا السقوط في الخطية والارتباط بها إلى حد الانفصال عن الله الذي هو الموت الأبدي (يع1: 13-15).
والتجربة هي عمل إبليس الذي لا يتوانى عن عمله نهاراً وليلاً، فهو كالأسد يجول دائماً ملتمساً مَن يبتلعه (1بط5: 8) مع أول صفحات الكتاب رأيناه يتسلل إلى الجنة لينصب فخاً للإنسان الأول وللأسف نجح في اسقاطه في العصيان وابتعد به وبنسله عن الله، وطوال التاريخ يكشف لنا الكتاب عن محاولاته الدؤوبة لتجربة البشر بطرق وأساليب وخدع لا حصر لها، حتى نصل للصفحات الأخيرة في الكتاب لنجد أن إبليس قد نجح للأسف في أن يُضل كل الأمم والشعوب حتى صارت الأرض مستحقة لضربات القضاء الإلهي العادل.
بل وفي ملء الزمان عندما أتى الإنسان الثاني، ربنا يسوع المسيح، وجدناه يذهب إلى البرية بعد المعمودية مباشرة لكي يُجرب من إبليس، وإذا كان آدم الأول قد سقط أمام غواية الحية إلا أن آدم الأخير قد انتصر على التجربة وتمسك بارتباطه بالآب السماوي والخضوع له وتتميم مشيئته (مت4: 1-10)
ويعلمنا الكتاب أن إبليس هو كائن حكيم بطبعه (حز28: 12) ولذلك هو لا يتحرك في تجاربه بعشوائية غير مدروسة، بل هو يحبك ويصوغ التجربة بخبث شديد حتى تناسب كل واحد بحسب شهواته ونقاط ضعفه، ولهذا يشعر الإنسان عادة بالضعف أمام التجربة وبالميل للسقوط فيها، قد يستخدم الحية للإيقاع بحواء ويستخدم حواء لإسقاط آدم، قد يستخدم كثرة المال لإهلاك زكا ويستخدم قلة المال للإيقاع بالمرأة الخاطئة، قد يستخدم ضعف وصغر النفس لتدمير المرأة السامرية ويستخدم الاحساس بالقوة وغرور السلطة للإيقاع بداود!! أحياناً يتكلم بأكاذيب وبهتان وأحياناً يستخدم آيات من الكتاب المقدس!! يمكنه أن يستخدم القوة وأيضاً الضعف، الجمال والقبح، الفقر والغنى، الفرح والحزن، المكسب والخسارة، فلا توجد ظروف لا يستطيع ابليس أن يستغلها للإيقاع بنا في حبائله!!
إن كل واحد منا يتعرض لهذه التجارب في كل يوم دون أن يدري أو يلاحظ!! الظروف والملابسات التي نظنها عشوائية كثيراً ما كانت مدبرة بحكمة تفوق ادراكنا، منذ أن نستيقظ صباحاً هناك من ينسج حولنا خيوطاً غير منظورة للإيقاع بنا، قد يستخدم الأشخاص الذين نقابلهم، والكلمات التي نسمعها، والأفكار التي تطرأ فجأة على أذهاننا، والمشاعر التي تكتنفنا دون مبرر، وكل هذا قد نجتاز فيه دون أن ننتبه حتى نهدأ إلى أنفسنا في نهاية اليوم فنكتشف أننا ابتعدنا كثيراً عن فكر إلهنا ومشيئته، ونبدأ نفهم أن العدو نجح في اقتناصنا بحبائل لم نلاحظها وأبعدنا عن خطة الله ليومنا!! وماذا نستطيع أن نفعل عندئذ سوى أن نصرخ بألم وتضرع: «لا تدخلنا في تجربة»!! وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 4 أبريل 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (39)
بقلم : فخرى كرم

«كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (مت6: 12)
في (مت18: 23-35) يحكي لنا الرب مثلاً يشرح فيه الرابط بين غفران الله الأبوي لذنوبنا وغفراننا نحن للمذنبين إلينا، في هذا المثل نرى عبداً مديوناً للملك بمبالغ طائلة لا يمكنه سدادها بأي حال من الأحوال، وكان الحُكم العادل أن يُباع هو وأسرته وممتلكاته لكي يُوفى الدين، وأن «يُباع» تعني أن يُخرجه الملك من دائرة ملكيته إلى ملكية سيد آخر، أي أن تنقطع علاقته بسيده إلى الأبد، وهذا العبد يشبه كل واحد منا في حالة المديونية الأبدية لله، أجرة خطايانا كانت تحتم أن ننفصل عن الله إلى الأبد ويمتلكنا سيد آخر الذي هو إبليس ونُطرح معه في الظلمة الخارجية، وهذه الأجرة تحتاج إلى غفران أبدي.
 وأمام عجز وتوسل هذا العبد لسيده لكي يرحمه من هذا المصير المرعب نجد الملك يقدم نعمة عظيمة لعبده، نجده يقدم له غفراناً أبدياً لخطيته ويمنحه عفواً لمديونيته ويطلق سراحه بلا قيد أوشرط!! إنها صورة جميلة لنعمة الله التي اتجهت لنا في المسيح، النعمة المجانية التي تغفر لنا خطايانا مهما كان حجمها وتعطينا تبريراً كاملاً من ثقل مديونيتنا الأبدية، وهذا الغفران الأبدي مجاني وليس له مقابل سوى أن نعترف بعجزنا ونضع ثقتنا في رحمة الله التي ظهرت في الصليب!!
لكن كان من البديهي والمتوقع أن تنشيء هذه النعمة الغنية إحساساً عميقاً بالشكر والإمتنان في قلب هذا العبد، وأن يدفعه هذا الإحساس للاقتراب أكثر من سيده والإلتصاق به وتنفيذ مشيئته وأفكاره، وإذا كان هذا العبد قد أدرك أن مشيئة سيده هي الرحمة والغفران للمذنبين فكان البديهي أن نراه يحب هذه المشيئة ويسعى في كل حياته لتقديم الرحمة والغفران للمذنبين، وهو لا يفعل هذا من عندياته بل من الرحمة والغفران الذي أخذهما من سيده، إنه في الحقيقة يسعى فقط لتمرير النعمة التي أخذها إلى الأخرين، فالإنسان لا يمكنه أن يكون مصدراً للنعمة لكن أقصى ما يستطيعه أن يكون قناة تنتقل فيها نعمة الله للأخرين!!
لكن للأسف يحكي لنا السيد أن هذا العبد لم يقدّر نعمة الملك ولم يلتصق بقلبه ولم ينفذ مشيئته الغافرة للمذنبين، بل اختار أن يضع نفسه في موضع غريب ويقف في أرض بعيدة عن أرض سيده، اختار أن يتخذ موقف الدائن الذي يطالب بالدين دون رحمة أو غفران، أحب أن يقف على أرض القسوة والتلذذ بتذكير الأخرين بمديونيتهم وعجزهم، وما أبعد المسافة التي تفصل هذه الأرض عن الأرض التي يقف عليها إلهنا الرحوم!!
كان موقف هذا العبد من العبد رفيقه موقفاً خاطئاً يحتاج إلى غفران جديد من الملك، ليس الغفران الأبدي هذه المرة بل الغفران الأبوي الذي يعيده للشركة والتوافق مع ارادة سيده، لأن هذا الموقف حدث في دائرة ملكوت السيد وتجاه عبد من عبيده، وهذا الموقف الردئ ينشر في ملكوت السيد روحاً غريبة ومضادة لروح السيد نفسه، أي أن هذا العبد عندما اختار أن لا يغفر للعبد رفيقه كان في الحقيقة يقاوم مشيئة الملك ويمنع انتشار روح نعمته في دائرة ملكوته!! لكن هل من المعقول أن ننتظر من السيد أن يغفر لهذا العبد خطأه تجاه العبد رفيقه طالما ظل هذا العبد واقفاً في هذه الأرض المضادة لمشيئة سيده؟ بالطبع كلا!! لذلك نرى السيد لا يغفر لهذا العبد خطأه الجديد بل يأمر بتعذيبه حتى يتوب ويصحح موقفه من السيد أولاً ثم من العبد رفيقه ثانياً!! إن غفراننا للأخرين يعني أننا نقدّر غفران الله لنا ونختار أن نرتبط به ونعمل مشيئته ونمرر نعمته للأخرين، وهكذا يمكن لله أن يغفر لنا ذنوبنا ويعيدنا إلى شركته الأبوية!! وللحديث بقية (يتبع) 


الأحد، 1 مارس 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (38)
بقلم : فخرى كرم

«.. كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (مت6: 12)
يربط الرب بهذه الكلمات بين غفران الله لذنوبنا وغفراننا نحن للمذنبين إلينا، كما عاد وأكد هذا الارتباط في نهاية الصلاة بقوله «فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم» (ع14، 15) ولكي نفهم معنى هذا الارتباط لابد أن نفهم أولاً أن ربنا لا يتكلم هنا عن الغفران الأبدي بل عن الغفران الأبوي، فكل خطية نعملها كأبناء للملكوت لها وجهان: وجه قضائي أبدي ووجه علاقاتي أبوي، وبالتالي هي تحتاج إلى وجهين للغفران: غفران أبدي وغفران أبوي!!
 (1) الغفران الأبدي: قضائياً خطيتنا تستلزم قصاصاً أبدياً لأن أجرة الخطية هي الموت، والموت هو الإنفصال الأبدي عن الله، وبالتالي فغفران الخطية أبدياً يحتاج إلى ذبيحة كفارية أبدية تُقدم أمام الله عن الخطايا، وقد قدم يسوع نفسه كذبيحة خطية أمام الآب عن كل خطايانا مرة وإلى الأبد، وبالتالي فحصولنا على الغفران الأبدي لذنوبنا لا يتوقف على أية أعمال نعملها مهما كانت بل يتوقف فقط على قبولنا لذبيحة المسيح المقدمة عنا ودخولنا تحت ستر دماه التي سُفكت عنا على الصليب!!
إذاً عبارة «وإغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا» لا تعني الغفران الأبدي لذنوبنا لأن الغفران الأبدي لا يؤسس على غفراننا للأخرين ولا على أي شيء آخر سوى على نعمة الله التي ظهرت لنا في صليب المسيح، وما يؤكد هذه الحقيقة هو أن الرب علمنا أن نقول في بداية الصلاة «آبانا الذي..» أي أننا نخاطب الله باعتبارنا أبنائه بالفعل، وهذا يتضمن بالضرورة حصولنا على الغفران الأبدي لخطايانا، فلا يُعقل أن نكون منفصلين أبدياً عن الله ونخاطبه قائلين «آبانا الذي»!! لكن للغفران وجه آخر:
(2) الغفران الأبوي: علاقاتياً الخطية تفصلنا عن الشركة الحميمة مع أبينا السماوي، لأن كل خطية نعملها في دائرة الملكوت تعني أننا اتخذنا موقفاً مخالفاً للموقف الذي يتخذه الآب السماوي، وخطونا خطوة مبتعدة عن المسار الذي يخطو هو فيه، واعتنقنا فكراً مغايراً لفكره تعالى، وتصرفنا بطبيعة مضادة للطبيعة الموجودة في شخصه، وهذا يؤدي بالضرورة لفقدان قدرتنا على التواصل اليومي معه وسماعنا لصوته ومشاركتنا في أفكاره، ليس لأنه هو تغير من نحونا لكن لأننا نحن ابتعدنا عنه في قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا، ووضعنا أنفسنا في مناخ لا يتوافق مع المناخ الموجود في محضره!!
ان طبيعة الله هي الغفران، هو يحب أن يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين، المناخ الموجود في محضره هو مناخ الرحمة والمحبة والغفران، الصلاح هو جوهر أفكاره ومشاعره، الخير هو طبيعة وجوده وأعماله، وفي كل مرة نختار أن لا نغفر للمذنبين إلينا، ونختار أن نغضب ونحقد وننتقم، نكون فعلياً قد اختارنا أن ننفصل عن شركتنا مع أبينا السماوي، ونكون عملياً قد ابتعدنا عن علاقتنا الحميمة به، ونصبح عندئذ عاجزين عن التوافق معه والتجاوب مع إرادته وأفكاره، بل قد نصبح _ بقصد أو بجهل _ مقاومين لمشيئته ومعطلين لتنفيذها!!
ولذلك نحن نحتاج أن نغفر دائماً للمذنبين إلينا لكي نحفظ أنفسنا في توافق مع طبيعة الله الغافرة، وبالتالي يسهل أن يغفر لنا أبونا السماوي ذنوبنا ليس بالمعنى الأبدي للغفران بل بمعنى أن يعيدنا إلى شركته الأبوية ويحفظنا دائماً في حالة التوافق الحميم مع أفكاره ومشاعره، وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 8 فبراير 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (37)
بقلم : فخرى كرم

«واغفر لنا ذنوبنا» (مت6: 12)
قلنا أن الإنسان في سعيه الدائم لاشباع احتياجه للتبرير قد يلجأ لوسائل مخادعة للحصول على تبرير مزيف يحاول به أن يشبع جوعه النفسي، مثل «التبرير الذاتي» الذي يبرر فيه الإنسان نفسه أمام ضميره أو«التبرير أمام الأخرين» الذي يحاول فيه أن يظهر للناس بمظهر البار خلافاً لما يبطن، أو بتجاهل حقيقة الدينونة وإنكار وجود الديان، ولكن ها هو السيد يقودنا إلى الطريق السهل والمباشر للحصول على التبرير الحقيقي، وهو أن نتقدم مباشرة إلى الله معترفين باتضاع بذنوبنا وطالبين ببساطة الغفران.
وغني عن البيان أن المقصود بعبارة «اغفر لنا ذنوبنا» ليس أن نرددها بشكل روتيني منتظم خالٍ من الاحساس، لكن المقصود بالحري أن نخصص وقتاً في صلاتنا اليومية للاعترف بذنوبنا وطلب المغفرة من الله، مثل ذلك العشار الذي صعد إلى الهيكل ليصلي ولم يشأ أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره صارخاً «اللهم ارحمني أنا الخاطئ» (لو 18: 13) فنزل إلى بيته مستمتعاً بالتبرير الإلهي الحقيقي!!
ورغم ان الاعتراف بالخطية وطلب المغفرة هو الطريق الأسهل والأقصر للحصول على التبرير إلا أنه عملياً يبدو صعباً للغاية!! حتى أننا لا نجد اليوم في حياة المؤمنين أي صلوات اعتراف أو طلب للمغفرة، وكلمات مثل «آسف» أو «أنا مخطئ» أصبحت من أثقل الكلمات على ألسنتنا، ومشاعر الندم والخزي التي ظهرت في صلاة العشار لم يعد لها مكاناً في حياتنا وصلواتنا الممتلئة بالكلمات الجوفاء والبر الذاتي!!
ولا غرابة في هذا، ألسنا أولاد آدم؟! آدم الذي عندما أخطأ لم يتخذ الطريق السهل المباشر ويذهب يعترف بخطأه لله بل فضَّل طريق الهروب والإختباء، حتى أن الله هو الذي ذهب ليبحث عنه ويطلب سلامته!! آدم الذي اختار الطرق الصعبة الملتوية عندما حاول تبرير ذاته بإلقاء التهمة على الآخرين، فإتهم حواء بأنها السبب في سقوطه بل وأشار ضمنياً لإتهام الله الذي صنع له حواء!! آدم الذي اختار أن يبذل مجهوداً شاقاً في خياطة أوراق الشجر ليستر «الخارج» ويظهر بمظهر حسناً للأخرين بينما «الداخل» أصبح عارياً ومشوهاً!!
إن آدم حتى اليوم لم يعترف بخطيته!! إن آدم (ممثلاً في أبنائه) مازال حتى اليوم يختبئ من الله ويستتر وراء مظاهر كاذبة ويبرر نفسه بإلقاء اللوم على الأخرين، إن آدم (ظاهراً في نسله) مازال يبذل مجهوداً شاقاً في كل يوم ليبدو للناس بصورة حسنة بينما الموت والخزي يضرب عميقاً في جذوره!!
إن طبيعة آدم أبينا مازلت تسري فينا مسرى الدم وتتحكم في تصرفاتنا وردود أفعالنا تجاه الخطية، عندما نخطئ (وهذا يحدث مرات عديدة في اليوم الواحد) تأخذنا هذه الطبيعة الرديئة في طريق الهروب والإختباء بعيداً عن الله، تجعلنا نبحث عن مبررات نستتر وراءها وأشخاص نعلق عليهم فشلنا، تدفعنا لنلقي اللوم على الظروف والناس والبيئة والشيطان وحتى الله، ولكنها لا تعرف أن تلقي اللوم على نفسها أبداً!!
سيظل أصعب قرار نتخذه عندما نخطئ هو أن نتقدم نحو محضر الله بشعور الذنب والندم، نتقدم لنقف في دائرة النور بكل عرينا وإثمنا، نتقدم نحو الله ولا نهرب منه، ونلقي بأنفسنا على رحمته طالبين منه الغفران والتطهير، سيظل هذا أصعب قرار نتخذه لأنه مضاد لطبيعة آدم التي ورثناها، لكن ها هو السيد يعلمنا أن نتقدم نحو أبينا السماوي في كل يوم بل في كل موقف قائلين «اغفر لنا ذنوبنا»، ها هو السيد يشير لنا على الطريق السهل والمستقيم للتبرير لعلنا نكف عن طرقنا الملتوية المملوءة خداعاً وكذباً!! وللحديث بقية (يتبع)

الأربعاء، 1 يناير 2020

أحاديث من القلب


موعظة الجبل (36)
بقلم : فخرى كرم

«واغفر لنا ذنوبنا» (مت6: 12)
قلنا أن الإنسان في سعيه الدائم لاشباع جوعه النفسي للشعور بالتبرير قد يلجأ لاشباع نفسه بـ «البر الذاتي» الناشئ من خداعه لضميره، وهو بر مزيف لا قيمة له أمام الله، ولكنه أيضاً قد يلجأ لأنواع أخرى مزيفة من التـبرير:
(2) التبرير في عيون الآخرين (مت6: 5): في هذه الحالة يسعى الإنسان لاكتساب تبرير الناس له لكي يريح ضميره ويشعر بالرضا عن نفسه، يجتهد جداً ليكون باراً في عيون الآخرين ويشعر بالشبع إذا نجح في نوال مديحهم واعجابهم، نفسه تبحث عن نظرة اعجاب من المحيطين به كما يبحث الجسد الجائع عن الخبز، في كل أعماله وكلماته يريد أن يلفت النظر إلى فضائله ونجاحاته، إذا تحدث الناس عنه باعجاب شعر بالامتلاء والفخر وإذا تجاهلوه وأبدوا اعجابهم بآخر شعر بالانكسار والخواء!!
ولأن الناس لا ترى إلا الظاهر فهو يهتم بأن يكون في الظاهر بلا لوم بغض النظر عن حقيقة ما يبطن، لا تعنيه الحقيقة التي يراها الله في قلبه بقدر ما تعنيه المظاهر التي يراها الناس في ظاهره، وعن هؤلاء تكلم السيد قائلاً أنهم يهتمون بتنقية «خارج» الكأس والصحفة بينما هما من «داخل» مملوآن اختطافاً ودعارة، ويحرصون على تبييض قبورهم من الخارج وإن ظلت من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (مت22: 25-28) وقال السيد أيضاً عنهم أنهم يستوفون أجرهم بمجرد حصولهم على تبرير الناس، وعندما تأتي الساعة ويقفون أمام الديان العادل سيكتشفون لحسرتهم زيف التبرير الذي أشبعوا به أنفسهم، وأنه لا أجر لهم ولا بر أمام الله لأنهم لم يهتموا قط بالتبرير الحقيقي الذي يمنحه ويقبله الله!!
 (3) التبرير بانكار وجود الدينونة (مز14: 1-3): أحياناً يلجأ الانسان لحيلة خبيثة لكي يريح نفسه من تبكيت الضمير، وهي أن ينكر وجود دينونة لأعماله سواء بانكاره لوجود الله أصلاً أو باعتقاده بوجود إله لا يدين الخطية!! وهذه الحيلة قديمة قدم الإنسان نفسه منذ أن قالت الحية لحواء «لن تموتا» والتي تعني «لن يكون هناك دينونة لكسر الوصية»!! عندئذ شعرت حواء براحة مزيفة في ضميرها دفعتها لتأكل من الشجرة وأن تعطي رجلها ليأكل معها، ولكن للأسف استيقظ ضميرهما فجأة على حقيقة مفزعة ألا وهي أن هناك عواقب مريرة لكسر الوصية، وهي العواقب التي مازلنا نعاني منها حتى اليوم!!
وعلى مدار التاريخ استخدم كثيرون هذه الكذبة لاعطاء ضمائرهم راحة مزيفة واستمتاع مؤقت بالخطية، كثيراً ما قال الجاهل في قلبه «ليس إله» لكي يفسد بأفعاله، وانتشرت هذه الكذبة المميتة حتى زاغ الجميع وفسدوا ولم يعد هناك من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد!! وفي أيامنا هذه نلاحظ انتشار أمواج الإلحاد بين الشباب مما يدفعنا للتساؤل: لماذا يقبل الشباب ويتحمس لفكرة عدم وجود إله رغم عدم منطقية هذه الفكرة واستحالتها؟ والإجابة للأسف هي نفسها على مدار التاريخ: لكي يفسدوا بأفعالهم دون ازعاج من ضمائرهم!!
ومشكلة هؤلاء أن ضمائرهم ستستيقظ يوماً على حقيقة أن هناك إله يشرف من السماء على بني البشر ويستحضر كل أعمالهم للدينونة، على كل خفي، إن كان خيراً أو شراً (جا12: 14) والمأساة أن يأتي هذا الاستيقاظ متأخراً بعد فوات الوقت المقبول وضياع فرص التوبة!! ليت الرب يرحمنا من محاولة اشباع نفوسنا بتبرير مزيف وخداع ضمائرنا بأكاذيب مميتة!! وللحديث بقية (يتبع)