الاثنين، 7 ديسمبر 2020

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (46)

بقلم: فخري كرم 

«لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض» (مت6: 19)

ينتقل الرب بالحديث في موعظة الجبل إلى موضوع في غاية الأهمية ألا وهو «المال» وعلاقة أبناء الملكوت به، فالمال في المجتمع اليهودي كان قد صار سيداً ينافس الله في سلطانه على نفوس الناس، يرفع ويحط، يكرم ويذل، بل امتد سلطانه إلى داخل الهيكل حتى أصبح من يصعد إلى بيت الله كمن يذهب إلى مغارة لصوص!! وبينما كانت غالبية الشعب تحت خط الفقر كانت هناك صفوة في المجتمع تكتنز المال وتختزنه، وفي الوقت الذي ترى أرملة منسحقة تضع فلسين في خزانة الهيكل تستطيع أن ترى أيضاً في الجانب الأخر مَن يلقي بتفاخر فضة كثيرة ونحاساً!!  

وإذا نظرنا إلى مجتمعنا اليوم هل نجد اختلافاً عن المجتمع الذي عاش فيه ربنا؟ أليس المال هو السيد القاسي الذي يسود حياة الناس ويحدد مركزهم في المجتمع؟ أليس المال هو الإله الذي تنحني أمامه كل الجباه وتنسكب عند قدميه كل القيم والاخلاقيات؟ ألم يتسلل المال إلى داخل الكنيسة وصارت له كلمة نافذة فيها؟ ألا نلاحظ نفس التفاوت بين طبقة تشقى بحثاً عن سد الرمق وتجنب الجوع وطبقة تكتنز الأموال وتنفق ببذخ وسفه؟! إذاً نحن نحتاج أن نستمع إلى كلمات الرب هذه كما استمع إليها تابعو الرب على مدارج جبال الجليل.

شمل الرب في حديثه الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم والأغنياء الذين يكتنزون أموالاً تزيد كثيراً عن حاجتهم، وقدم للجميع سبعة أسباب منطقية تدفعنا لعدم اكتناز المال وعدم الخضوع لسلطانه:

(1) القابلية للفساد والزوال

السبب الأول الذي يقدمه الرب هو أن المال لا يمكننا الوثوق بثباته ودوامه، فهو قد يعتريه الفساد أو الزوال، ولقد عبر الرسول بولس عن نفس الحقيقة قائلاً «أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا و لا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتمتع» (1تي6: 17)

 الرب هنا يوجه حديثه لفئة الأغنياء من سامعيه ويحذرهم أن مَن يتكل على الغنى إنما يتكل على شيء «غير يقيني»!! فالمال قد «يُفسد» أي تزول قيمته وهو بين أيدينا أو قد «يُسرق» أي يؤخذ منا، ولقد رأينا في الفترة الأخيرة عدد من البورصات التي انهارت والعملات التي فقدت قيمتها في غضون ساعات، فعندما قامت حكومتنا بخطوة «تعويم الجنيه» اكتشف كل صاحب مال أن أمواله فقدت أكثر من نصف قيمتها في لحظة من الزمان، وعندما تفشى وباء الكورونا سبَّب خسائر رهيبة لأكبر الاقتصاديات في العالم، والأغنياء اكتشفوا فجأة أن سندهم قد اهتز والمال الذي اعتقدوه مرتكزهم تهاوى بهم، وأصبح شائعاً أن تقرأ عن صاحب مال أقدم على الانتحار لأنه لم يستطع احتمال فكرة أن أمواله قد فسدت أو فُقدت!!

في (لو12: 20) يسرد الرب لنا مثلاً يكشف فيه أن الاتكال على غير يقينية الغنى ليس تصرفاً خاطئاً فقط بل يرقى إلى مستوى «الغباء»!! لقد اعتقد الغني الذي أخصبت كورته أن في اكتنازه للمحاصيل ضماناً لسنين عديدة من السعادة والاستقرار، ولم يعلم أن المال لا يمكنه أن يضمن لنا يوماً واحداً من السعادة لأنه قد يؤخذ منا في أي وقت أو نؤخذ نحن منه، إن «غرور الغنى» يجعلنا ننسى أحياناً أن حياتنا مستمدة من الله وليس من أموالنا، وأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله (لو12: 15) في تلك الليلة أُخذت نفس الغني منه وبقيت أمواله وحدها تشهد للجميع أن المال لا يضمن لصاحبه أي شيء!! وللحديث بقية (يتبع)