السبت، 25 مارس 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (33)

بقلم : فخرى كرم

بعدما تكلمنا عن صورة الحمامة التي تشير لروح الوداعة، وصورة النار التي تشير إلى روح القضاء والامتحان، نتقدم الآن بكل خشوع لنتأمل في صورة ثالثة من الصور الرمزية التي استخدمها الكتاب للإشارة إلى شخص الروح القدس، ألا وهي صورة :

المياه

« وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي قائلا: إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب، من آمن به كما قال الكتاب  تجری من بطنه أنهار ماء حي، قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه » ( يو ۷ : ۳۷ـ ۳۹ ).

عندما يتكلم رب المجد هنا عن شخص الروح القدس نراه يرسم أمامنا صورة رمزية رائعة صورة المياه العذبة الباردة المنعشة المتدفقة كأنهار تروى الأراضى الجافة والنفوس العطشى، تحمل الحياة والنماء لكل من يقابلها ، إنه يريد أن يشير لنا على عمل آخر من أعمال الروح المبارك، لقد عرفنا أنه روح الوداعة وروح القداسة لكنه أيضا:

الروح المعطي الحياة !!

إن المياه هي المكون الأساسي لكل أنسجة الكائنات الحية، وكل الوظائف الحيوية في أجسادنا تعتمد على وجود المياه، بل أن كل خلية من خلايانا يمثل الماء مكونها الرئيسي، والدم الذي هو سائل الحياة لأجسادنا يتكون في معظمه من الماء، والإنسان في حاجة يومية ومستمرة للمياه لكي يعوض ما ينقص منها، فالجسد يستهلك كمية يومية من المياه لكي يقوم بوظائفه الحيوية، ويستهلك كمية أخرى لكي يقاوم بعض العوامل الخارجية المضادة مثل شدة الحرارة والجفاف، أما إذا لم يتمكن الإنسان من تعويض ما ينقصه من المياه فإنه يشعر بالعطش، وهو شعور قاس لا يستطيع الإنسان تجاهله أو تأجيله، شعور يدفع الإنسان لكي يسارع بالبحث عن الماء الذي يروي عطشه ويعيد له الانتعاش والحيوية، أما إذا لم يجد الماء متاحاً واستمر نقص المياه من الجسد فعندئذ تبدأ الخلايا تفقد حيويتها وقدرتها على القيام بوظائفها، ثم تبدأ تنكمش وتجف وتموت، وفي غضون أيام قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة يفقد الجسد الحياة ويموت!!

وأرواحناتعطش أيضا !!

لقد استخدم الرب هذه الصورة الرمزية لكي يعلن لنا حقيقة أن احتياج أرواحنا إلى الله يشبه احتياج أجسادنا للمياه، إن أرواحنا مأخوذة من الله ولا تحيا إلا به، وحضور الله في الحياة أمر حتمي إذا أردنا أن نكون أحياء روحية ، ولا يستطيع الإنسان أن يقوم بوظائفه الروحية بصورة حقيقية ولا يستطيع أن يقاوم عوامل الخطية والموت المحيطة به من كل جانب إلا من خلال شركة روحية يومية ومستمرة مع شخص الله نفسه، أما إذا غاب حضور الله عن الإنسان وانقطعت الشركة بينهما فإن الحياة الروحية تبدأ تجف وتضعف، وإذا استمر الحرمان فإن الإنسان يموت روحياً، وهذا ما كان الله يعنيه عندما قال لآدم «لأنك يوم تأكل منها موتا تموت» ( تك 2 : 17 ). إن موت آدم روحياً بعد الأكل من الشجرة لم يكن عقاباً على الخطية بقدر ما كان نتيجة طبيعية للخطية والانفصال عن الله، لقد أصاب الجفاف والموت روحه لأنها لا تستطيع أن تحيا بدون شركة مع الله.

كما يشتاق اليل !!

استخدم كاتب المزمور نفس الصورة الرمزية عندما قال «كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله، عطشت نفسي إلى الله، إلى الله الحي، متى أجيء وأتراءى قدام الله» (مز 42 : 1 ، 2 ).

لقد شعر في نفسه أنه مثل حيوان الإيل الذي يعيش في بيئة صحراوية جافة وقاسية وحارة تستهلك من جسده المياه بشكل دائم ومستمر، لذلك فهو في حاجة مستمرة ليس لقطرات من المياه بل لجداول من المياه !! إن ضرورات الحياة والمقاومة الروحية التي نلقاها في برية العالم تستهلك منا طاقة روحية هائلة، لذلك فنحن في حاجة يومية مستمرة ليس لكلمات أو مواعظ أو طقوس بل لشخص الله نفسه، ليس لقطرة مياه هنا أو هناك بل لأنهار ماء حي !! وهذا هو العمل الذي يقوم به روح المياه ، الروح معطي الحياة، إن «الله» الذي يتكلم عنه كاتب المزمور هو نفسه «الروح» الذي يتكلم عنه رب المجد يسوع، كلاهما هو المياه لأرواحنا العطشى، وللحديث بقية.

 

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله (32)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن روح النار وعمله المزدوج في إظهار الصلاح وتزكيته وفضح الإثم وإدانته، وقبل أن نختتم الحديث عن هذه الصورة الرمزية من صور روح الله القدوس لابد أن نشير إلى أن :

ابتداء القضاء من بيت الله قلنا إن الروح فضح الإثم المستتر في الأمة اليهودية وقادها إلى الدينونة، والآن نريد أن نؤكد أن الروح النارى لا يفرق بين الخطية التي في الأمة اليهودية والخطية التي في داخل الكنيسة، بل إن ابتداء القضاء يكون دائما من داخل البيت (۱بط 4 : 17 ) والرب الذي علمنا أن ننقى الداخل أولا قبل الخارج لابد أنه يتبع نفس المنهج في تعامله مع كنيسته!! إن انضمامنا لشعب الله لا يجعلنا في مأمن من روح القضاء بل بالحرى يجعلنا في مقدمة القضاء!!

حنانيا وسفيرة

عندما انسكب الروح المبارك في يوم الخمسين أظهر الصلاح الذي سبق وزرعه رب المجد في نفوس أتباعه، فرأينا مبدأ «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» يظهر بوضوح في وسط الكنيسة حتى إن كل من كانت له أرض أو ممتلكات كان يبيعها ويأتي بأثمانها عند أقدام الرسل، وكان برنابا مثالا لامعا لروح العطاء هذه، ولكن في وسط هذا الجو المقدس بدأ الجسد يتحرك ورأينا أرض الإنسان تنبت زوانا رديئا يشبه من الخارج الحنطة لكن جوهره ليس العطاء بل الأخذ!! ويحمل في داخله سمأ زعافا إذا ترك يسري وسط الجماعة، سم الرياء والكذب والرغبة في لفت الانتباه وجذب المديح للذات!! بهذه الروح الرديئة باع حنانيا وسفيرة حقلا وأتيا بجزء من ثمنه عند أقدام الرسل.

كان عملهما يبدو من الخارج مشابهة لعمل برنابا والآخرين، لكن روح النار الساكن وسط الجماعة يمتحن جوهر الأعمال ويحكم عليها، ولذلك وجدناه يمارس عمله في فضح هذا الإثم وإدانته، وكان القضاء فورياً وحاسماً لمنع سريان هذا السم في وسط الجماعة، فسقط حنانيا وسفيره عند أقدام الرسل وحملا ميتين ، وهكذا كان الروح المبارك يمارس القضاء في داخل البيت قبل أن يقضي على الأمة العاصية في الخارج.

.. وكثيرون ضعفاء ومرضى ويرقدون !!

ونقرأ في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس أن الروح يدين أعمال المؤمنين الخاطئة بضربات تتناسب في شدتها مع حجم الخطأ، تتدرج من الضعف إلى المرض إلى الموت بل وحتى إلى التسليم للشيطان!! لأننا إذا لم نتعلم كيف نحكم على أنفسنا وندين أخطاءها ونحفظها في حالة القداسة اللائقة بإلهنا القدوس فلابد أن يحكم علينا ونؤدب من الرب لكي لا تدان مع العالم.

خوف الله

 إن روح القضاء هذه أنشأت مخافة لله في نفوس المؤمنين (أع 5 : 11 ) ، الخوف المقدس الناتج عن الإحساس الدائم بوجودنا في محضر «الديان»، الخوف من الخطأ أو الوقوع تحت القضاء، الخوف الذي يحفظ القلب طاهراً والذهن نقياً والسلوك مستقيم، الخوف الذي ينبغي أن يلازمنا في زمان غربتنا (۱بط  1 : 17 ) ويدفعنا لتتميم خلاصنا (في 2 : 12 ) . هذا الخوف لم نعد نلاحظه في أيامنا هذه ، تسرب من قلوبنا هذا الخوف المقدس وتسللت إلينا الاستهانة واللامبالاة، الاستخفاف بالمقدسات صار شائعاً وسط جماعات المؤمنين بشكل يدعو للفزع، وعندما نتلفت حولنا وننظر لأوضاع المؤمنين والكنائس وصدم بالخطايا المستترة والمعلنة تنتشر في كل مكان، وتفاجأ بالذات المتضخمة وهي تجاهر بوجودها وتسلطها في داخل الكنيسة، وعندما نبحث عن قضاء إلهي يعيد الأمور إلى نصابها ولا نجد، عندئذ لابد أن تخرج منا صرخة:

أين أنت يا روح النار ؟!

لماذا تسكت ولا تتكلم ؟ لماذا تترك الزوان ينمو في وسط الحنطة حتى أصبحنا نعيش في جو من الكذب والخداع والزيف، لم يعد هناك حد فاصل بين الحق والباطل، بين الثمين والرخيص، بين الذهب والتراب!!

لماذا تتركنا لأنفسنا ؟ لماذا تترك الذات تسود وتتحكم في وسط الكنيسة المدعو عليها اسم يسوع ؟ هل هذا هو قضاؤك علينا ؟ إن أقسى قضاء يمكن أن نقاسيه هو أن تفارقنا وتتركنا لأنفسنا !! إن نار حضورك يا روح الله أفضل بما لا يقاس من نار غيابك!! والخوف المقدس الذي تصنعه في القلب أعظم بما لا يقاس من الخوف المظلم الذي أصبحنا نعيش فيه من بعد غيابك!! ليتك تعود تنسكب علينا يا روح النار والقضاء، إننا في أشد الحاجة إليك!! (يتبع).