الجمعة، 4 يونيو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (52)

بقلم : فخرى كرم 

«الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره» (مت6: 34)

يختتم الرب كلامه عن علاقتنا بالمال بالحديث عن سبب سابع يدفعنا لعدم اكتناز المال، ألا وهو

ضرورة أن نعيش يوماً واحداً كل يوم!!

يعلمنا الكتاب أن الله خلق الأرض تدور في وحدات تتكرر بشكل منتظم، وتكرارها يصنع ما نسميه «الزمن». فأعمارنا تُحسب بوحدة نسميها «السنة» والسنة ما هي إلا دورة كاملة للأرض حول الشمس، وهذه الوحدة أعاد الله تقسيمها إلى وحدات أصغر نسميها «اليوم» واليوم ما هو إلا دورة كاملة للأرض حول نفسها، وتكرار وحدة «اليوم» يصنع «السنة» التي تصنع بتكرارها عمرنا كله!!

لماذا قسم الله الزمن إلى هذه الوحدات الصغيرة؟ لأنه خلق أجسادنا لا تحتمل الضغط والعمل بشكل متصل، لأن أجسادنا مخلوقة من تراب هذه الأرض لذلك هي خاضعة لنفس الطبيعة الدائرية التي خُلقت منها الأرض، تحتاج أجسادنا بعد نهار من العمل والتعب إلى ليل تستريح فيه وتسكن كل حواسها عن العمل لكي تجدد طاقتها لبدء دورة جديدة مع بداية نهار جديد، ولذلك قسم الله وحدة «اليوم» إلى مساء وصباح بشكل متعاقب ومنتظم، الليل للراحة والسكون والنهار للعمل والاجتهاد، ولو لم تنتظم أجسادنا مع هذه الدورة المتعاقبة تختل كل وظائفها وترتبك كل طاقاتها!!

هذا القانون نراه واضحاً في الكتاب عندما أعطى الله المن للشعب القديم وكانت وصيته أن يخرج الشعب باكراً ليجمع المن فريضة كل يوم بيومه، ومن كان يجمع لأيام تالية كان يكتشف فساده!! وفي حديث ربنا هنا نجده يشير إلى نفس المبدأ ألا وهو أن أجسادنا ونفوسنا يكفيها أن تواجه شر يوم واحد، لقد خُلقت بهذه الإمكانية المحدودة، ويطمئننا ربنا بأن الله إذا سمح لنا بالغد فسوف يعطينا مع هذا الغد ما يكفينا لعبوره.

لكن بعد السقوط ونزول الإنسان إلى الأرض ليعملها أراد إبليس أن يفسد طبيعة الإنسان السوية التي خلقها الله، فألقى في قلب الإنسان أن يعمل ليلاً ونهاراً تحت ضغط الجشع والطمع والرغبة في زيادة موارده، لم يعد الإنسان ينام بالليل بقدر كافٍ ولم تعد حواسه تسكن لتجدد طاقاتها، أصبح الإنسان تحت ضغط العمل بشكل متصل وهو لم يُخلق بهذه الإمكانية!!

ونتيجة لهذه الضغوط أصبح الإنسان لا يحمل هم يومه فقط بل صار يحمل هم أيامه القادمة، وأصبح ذهنه مطالب بالتفكير في سنين قادمة وجسده مطالب بالعمل ليختزن المال لهذه السنين، لم يعد ذهن الإنسان يجد فترات راحة لتجديد نشاطه ولم تعد أعصاب الإنسان تحتمل هذه الهموم بشكل متصل، وتحت تأثير روح العالم دخل الإنسان في هذه الدوامة التي أفسدت طبيعته السوية التي خُلق عليها، هذه الدوامة التي لا يخرج منها الإنسان إلا وقد تمزق إلى أشلاء وبقايا محترقة!!

ربنا يحذرنا هنا من أن ننجرف وراء روح اختزان المال والخوف من المستقبل، لأن هذا الروح يحمّل أجسادنا ونفوسنا فوق طاقتها ويؤدي بها إلى الأمراض والعلل التي صرنا نراها بشكل متزايد في أنفسنا ومن حولنا، ليتنا نتعلم من كلمات ربنا هذه وليتها تسكن فينا عميقاً فنبدأ كل يوم من حياتنا بنفوس متجددة الطاقة ترفع عيونها على خالقها لتستمد منه نعمة تكفي يومها الجديد، وعندما يميل النهار ليتنا نتعلم كيف نلقي الهموم بعيداً ونهدأ لديه آمنين وبين منكبيه نسكن (تث33: 12) وللحديث بقية (يتبع)