الخميس، 11 يناير 2018

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (12)
بقلم : فخرى كرم
«أنتم ملح الأرض» (مت5: 13)
بعدما تكلم ربنا في التطويبات عن الصفات وأعمال البر التي تميز أبناء ملكوت الله، وختم كلامه بأنهم سيتعرضون للطرد والتعيير والمقاومة بسبب هذا البر عينه، لابد أن سؤالاً ثار في أذهان السامعين: «لماذا إذاً يسمح الله أن يعيش أبناء الملكوت في هذا العالم الشرير الخاضع لسلطان الشيطان؟ ولماذا يعملون البر إذا كان العالم يرفض هذا البر ويقاومهم بسببه؟» والرب هنا يستأنف كلامه ويجيب عن هذا السؤال المنطقي.
الرب يقول إنه يتركنا نعيش في هذا العالم لكي نكون ملحاً للأرض، والرب هنا يشير إلى مادة شائعة يستخدمها كل بيت في إسرائيل لكي يشرح لنا معانٍ في غاية السمو، فالملح في تلك الأيام القديمة كان له تأثير في حياة الناس اليومية، كان يعمل أولاً على إضافة طعم مقبول للطعام وثانياً كان يقاوم انتشار الفساد في الأغذية المحفوظة، وهكذا تماماً يعمل أبناء الملكوت!!
الله يترك أبناءه في العالم لكي يجعل حياة البشر أفضل ويمكن احتمالها، فالحياة لا يمكن تصورها ولا احتمالها بدون أبناء الملكوت!! هل يمكنك تصور حياة غارقة في الماديات المنظورة فقط بدون مساكين بالروح يطلبون الله ويسعون نحوه لأجل أنفسهم والمحيطين بهم؟ هل تستقيم الحياة في المجتمع إذا كان الكل يهتم بما لنفسه فقط ولا يوجد من يحزن لأجل الآخرين ويتعاطف معهم؟ هل يمكنك العيش في مجتمع يتصارع ليلاً ونهاراً لأجل امتلاك الأرض بدون وجود ودعاء ينشرون المحبة والتسامح؟ هل هناك طعم لحياة خالية من أعمال البر والرحمة والتكافل الأخوي؟ هل نحتمل الحياة إذا كان الكل يكذب ويخدع ولا وجود للصدق ونقاء القلب؟ بل هل يمكننا تخيل التاريخ البشري بدون صانعي السلام الذين أطفأوا نيران الخصومات والحروب بين الأفراد والجماعات والشعوب؟!
هل يمكن تخيل تاريخ البشرية بدون رجل مثل إبراهيم قرر أن يرفع عينيه إلى فوق وينظر إلى المساكن الأبدية ويرفض أن يتعلق قلبه بمساكن على الأرض؟ رجل زرع بذرة الإيمان في حياة البشر معلماً إياهم أن هناك عالماً غير منظور له أساسات أثبت وأعظم من العالم المنظور، رجل منع بحياته سريان تيار المادية والانكباب على المنظور.   
هل يمكن تصور مستقبل شعب إسرائيل المُستعبد في مصر وهو يتعرض لكل صنوف الإذلال والإبادة بدون وجود إنسان مثل موسى رجل الله؟ ألم يكن موسى ملحاً للأرض في تلك الأيام القديمة عندما أعطى لشعبه رجاءً وسار به إلى حياة أفضل؟ ألم يكن ملحاً عندما منع انتشار فساد فرعون واتمام مخططه الشرير؟ بلى، كان موسى ملحاً للأرض رغم تعرضه للمقاومة من أعدائه ومن شعبه على حد سواء!!
هل يمكننا التنبؤ بأي منقلب ردئ كانت ستنقلب إليه مملكة إسرائيل المنقسمة لولا ظهور رجل مثل إيليا؟ الرجل الذي أعاد اسم الرب إلى ألسنة وقلوب الشعب المرتد، وتعامل بالنار والدينونة مع كل اسم غريب أراد أن يستشرى ويسود في وسط الشعب المغلوب على أمره!!

وماذا نقول أيضاً لأنه يعوزنا الوقت إن تكلمنا عن كل أبناء الملكوت في كل عصر وجيل، بل في كل مملكة ومدينة، بل في كل شارع وزقاق وبيت!! كانوا بشراً مثلنا لكنهم استطاعوا بحياتهم أن يضيفوا ألواناً بهيجة لحياة الناس المعتمة الكئيبة، ومن الناحية الأخرى استطاعوا أن يقفوا ضد تيار الشر الذي ما فتئ يحاول تدمير حياة البشر، لقد كانوا حقاً ملحاً للأرض!! وللحديث بقية (يتبع)  

أحاديث من القلب

موعظة الجبل (11)
بقلم : فخرى كرم
«طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات» (مت5: 10)
إن أبناء ملكوت الله لا يعيشون في عالم خاص بهم لكنهم يعيشون في وسط هذا العالم الشرير، ورئيس هذا العالم هو إبليس نفسه، والصفات والأخلاق السائدة في هذا العالم مختلفة بل مضادة تماماً لصفات وأخلاق ملكوت الله، وهذا يضع مسئولية مضاعفة على أبناء الملكوت، فالمطلوب منهم ليس فقط أن يعيشوا البر بل أن يعيشوه في وسط عالم يبغض هذا البر ويقاومه طوال الوقت!! مطلوب أن يعيشوا أخلاق ملكوت الله في قلب عالم لا يفهم هذه الأخلاق ويسلك بأخلاق إبليس نفسه!! ولو استطاع أبناء الملكوت أن يواجهوا هذا التحدي ويتمموا هذه المسئولية الصعبة يكونون مستحقين لتطويب جديد وأجر عظيم في السماوات!!
إذا كان أبناء الملكوت الإلهي يمتازون بالروح المسكينة المتضعة التي تشعر كل الوقت بالاحتياج الشديد لله فأبناء ملكوت إبليس يتميزون بالاعتداد والتفاخر بالذات، هذا الاعتداد عينه الذي أخرج إبليس قديماً من ملكوت الله، وهذا الاعتداد يجعلهم يتعاملون بجفاء وتعالي مع كل مَن يختلف عنهم، بل يصل الأمر إلى العنف والقسوة تجاه من يخالفهم المبدأ والرأي.
إذا كان أبناء الله يتعاطفون مع الآخرين وتمتلئ قلوبهم بالحزن لأجلهم فأبناء هذا الدهر لا يمكنهم أن يحزنوا لأجل الآخرين لأن قلوبهم ممتلئة بأنفسهم وذواتهم تحتل كل اهتمامهم، وإذا كانت صفة الوداعة تميز أبناء الله حتى أنهم يحبون ويقبلون حتى الأعداء فطبيعة أبناء إبليس هي على النقيض تماماً من الوداعة، إنهم يعيِّرون من يختلف عنهم ويطردونه من وسطهم بل يقولون عليه بالكذب كل كلمة شريرة لكي يبرروا أنفسهم ويخدعوا ضمائرهم.
إذا كان أبناء الملكوت يجوعون للبر ويسعون طول الوقت لفعله فأبناء هذا العالم يطردونهم وينبذونهم لأجل هذا البر عينه!! وإذا كانت الرحمة تميِّز طبيعة أبناء الملكوت فأبناء هذا العالم يميزهم القسوة والعنف تجاه الآخرين، أبناء الملكوت يهتمون أن يرفعوا الأحمال عن كاهل الناس أما منهج أبناء إبليس فهو أن يحزموا أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس (مت23: 4)
وإذا كان الرب يطالب أتباعه بأن يكونوا أنقياء القلب يهتمون بطهارة أعماقهم أكثر من اهتمامهم بجمال مظهرهم، فملكوت هذا العالم هو ملكوت الزيف والخداع الذي يهتم بالمظهر البرَّاق ويهمل العمق المظلم، نحن نعيش في عالم مزيف يهتم بنقاء خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافاً ودعارة (مت23: 25)
وإذا كان أبناء الله هم صنَّاع السلام في هذا العالم فأبناء إبليس هم صنّاع الخصام والانشقاق بين الإخوة (أم6: 19) فبينما يسعى أبناء الملكوت للتجميع وحفظ وحدانية الروح برباط السلام يسعى ابليس وأتباعه كل الوقت لبذر بذور الانقسام والعداوة في كل مكان.

ربنا يؤكد لنا في ختام التطويبات أن كل الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى العالم على مدار التاريخ تعرضوا للرفض والإهانة من معاصريهم، مما يؤكد أن الصراع بين هاتين المملكتين هو قديم قدم التاريخ نفسه، فلم يكن هناك وقت تصالح فيه العالم مع ملكوت الله!!  كما يؤكد ربنا أيضاً أن أجرنا سيكون عظيماً في السماء إذا استطعنا أن نعيش مبادئ ملكوت الله رغم مقاومة وتهديد إبليس وأتباعه، مقتدين بسيدنا الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا نكل ونخور في أنفسنا (عب12: 3) وللحديث بقية (يتبع)