موعظة
الجبل (12)
بقلم
: فخرى كرم
«أنتم
ملح الأرض» (مت5: 13)
بعدما تكلم ربنا في التطويبات عن الصفات وأعمال
البر التي تميز أبناء ملكوت الله، وختم كلامه بأنهم سيتعرضون للطرد والتعيير
والمقاومة بسبب هذا البر عينه، لابد أن سؤالاً ثار في أذهان السامعين: «لماذا إذاً
يسمح الله أن يعيش أبناء الملكوت في هذا العالم الشرير الخاضع لسلطان الشيطان؟
ولماذا يعملون البر إذا كان العالم يرفض هذا البر ويقاومهم بسببه؟» والرب هنا
يستأنف كلامه ويجيب عن هذا السؤال المنطقي.
الرب يقول إنه يتركنا نعيش في هذا العالم لكي نكون
ملحاً للأرض، والرب هنا يشير إلى مادة شائعة يستخدمها كل بيت في إسرائيل لكي يشرح
لنا معانٍ في غاية السمو، فالملح في تلك الأيام القديمة كان له تأثير في حياة
الناس اليومية، كان يعمل أولاً على إضافة طعم مقبول للطعام وثانياً كان يقاوم
انتشار الفساد في الأغذية المحفوظة، وهكذا تماماً يعمل أبناء الملكوت!!
الله يترك أبناءه في العالم لكي يجعل حياة البشر
أفضل ويمكن احتمالها، فالحياة لا يمكن تصورها ولا احتمالها بدون أبناء الملكوت!!
هل يمكنك تصور حياة غارقة في الماديات المنظورة فقط بدون مساكين بالروح يطلبون
الله ويسعون نحوه لأجل أنفسهم والمحيطين بهم؟ هل تستقيم الحياة في المجتمع إذا كان
الكل يهتم بما لنفسه فقط ولا يوجد من يحزن لأجل الآخرين ويتعاطف معهم؟ هل يمكنك العيش
في مجتمع يتصارع ليلاً ونهاراً لأجل امتلاك الأرض بدون وجود ودعاء ينشرون المحبة
والتسامح؟ هل هناك طعم لحياة خالية من أعمال البر والرحمة والتكافل الأخوي؟ هل
نحتمل الحياة إذا كان الكل يكذب ويخدع ولا وجود للصدق ونقاء القلب؟ بل هل يمكننا
تخيل التاريخ البشري بدون صانعي السلام الذين أطفأوا نيران الخصومات والحروب بين
الأفراد والجماعات والشعوب؟!
هل يمكن تخيل تاريخ البشرية بدون رجل مثل إبراهيم
قرر أن يرفع عينيه إلى فوق وينظر إلى المساكن الأبدية ويرفض أن يتعلق قلبه بمساكن
على الأرض؟ رجل زرع بذرة الإيمان في حياة البشر معلماً إياهم أن هناك عالماً غير
منظور له أساسات أثبت وأعظم من العالم المنظور، رجل منع بحياته سريان تيار المادية
والانكباب على المنظور.
هل يمكن تصور مستقبل شعب إسرائيل المُستعبد في مصر
وهو يتعرض لكل صنوف الإذلال والإبادة بدون وجود إنسان مثل موسى رجل الله؟ ألم يكن
موسى ملحاً للأرض في تلك الأيام القديمة عندما أعطى لشعبه رجاءً وسار به إلى حياة
أفضل؟ ألم يكن ملحاً عندما منع انتشار فساد فرعون واتمام مخططه الشرير؟ بلى، كان
موسى ملحاً للأرض رغم تعرضه للمقاومة من أعدائه ومن شعبه على حد سواء!!
هل يمكننا التنبؤ بأي منقلب ردئ كانت ستنقلب إليه
مملكة إسرائيل المنقسمة لولا ظهور رجل مثل إيليا؟ الرجل الذي أعاد اسم الرب إلى
ألسنة وقلوب الشعب المرتد، وتعامل بالنار والدينونة مع كل اسم غريب أراد أن يستشرى
ويسود في وسط الشعب المغلوب على أمره!!
وماذا نقول أيضاً لأنه يعوزنا الوقت إن تكلمنا عن
كل أبناء الملكوت في كل عصر وجيل، بل في كل مملكة ومدينة، بل في كل شارع وزقاق
وبيت!! كانوا بشراً مثلنا لكنهم استطاعوا بحياتهم أن يضيفوا ألواناً بهيجة لحياة
الناس المعتمة الكئيبة، ومن الناحية الأخرى استطاعوا أن يقفوا ضد تيار الشر الذي ما
فتئ يحاول تدمير حياة البشر، لقد كانوا حقاً ملحاً للأرض!! وللحديث بقية (يتبع)