سبعة أرواح الله (39)
بقلم : فخرى كرم
تكلمنا عن الصورة
الرمزية الرابعة لروح الله ألا وهي صورة «الريح»، وقلنا إنها تشير إلى خفاء وغموض
تعاملات الروح في أحيان كثيرة ، حيث لا يستطيع الإنسان أن يفهم تماما الدافع الذي
تأتي منه هذه التعاملات ولا الهدف الذي ترمي إليه إلا بعد وقت طويل عندما يكتمل
العمل ويظهر في صورته النهائية، حينئذ فقط يدرك الإنسان كمال وجمال عمل الروح الذي
عمله من خلال تفاصيل كثيرة اكتنفها الغموض في حينها. ودعونا الآن نرى بأكثر تفصيل
هذا الجانب من عمل الروح المبارك في حياة رجال الكتاب المقدس:
إبراهيم
في سن الخامسة والسبعين
هبت «الريح » المباركة على إبراهيم تدفعه لكي يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه ويذهب
نحو أرض مجهولة لا يعرفها، ولو عرفنا طبيعة الحياة في تلك العصور القديمة وكيف كان
الإنسان مرتبطاً بشدة بأرض أجداده وعشيرته حيث يستمد قوته وأمنه من التصاقه بأهله
، لأن القوة والكثرة كانت هي اللغة المتعامل بها في تلك الأرض، لأدركنا عندئذ أن
ما قاله الروح لأبرام كان أمرا غريبا غير مفهوم الدافع والهدف، لا يمكن للذهن
البشري أن يفهمه في ضوء حقائق الحياة المعتادة. ولابد أن تثور في الذهن تساؤلات من
قبيل: ماذا يفعل رجل واحد وامرأته وابن أخيه في وسط شعوب غريبة كثيرة العدد
والعتاد ؟ وما هو المقابل الذي يستحق كل هذه المعاناة؟ وألا يعتبر ترك الأرض
والعشيرة نوعا من الخيانة والعقوق وهروبا من المسئولية ؟!
لكن لا شك أن شدة
«الريح» كانت أقوى من أي تساؤل ثار في ذهن إبراهيم حتى أنه لم يستطع مقاومة الروح
وسار في الاتجاه الذي قاده إليه.
فشل التوقع المسبق
لا شك أن إبراهيم
استعان في مقاومته للاعتراضات التي ثارت في ذهنه بتوقعاته المسبقة للأحداث. لا شك
أنه توقع نجاحا سريعا نتيجة لطاعته، وذرية كثيرة تعوضه عن الأهل الذين تركهم...
إلخ، وكثيرا ما يستعين الإنسان بالأمل المشرق لكي يحتمل الحاضر المظلم!!
لكن للأسف نجد أن غموض
معاملات الروح استمر وازداد ، وبدلا من أن تسير الأحداث كما توقعها إبراهيم نجدها
تسير في اتجاه آخر، حيث صادفه الجوع في أرض كنعان مما اضطره للهجرة والكذب أكثر من
مرة، ثم انفصل عنه لوط السند الوحيد الذي خرج به من أرض أجداده ، ثم تأخر النسل
المتوقع وتوالت السنون تعلن استحالة تحقيق الأمل الذي تعلق به إبراهيم!!
والغريب أنه كلما كانت
نفس إبراهيم تخور تحت تأثير الظروف المعاكسة كان الرب يحيى الأمل بداخله من جديد!!
فبعد انفصال لوط عنه وزيادة إحساسه بالوحدة والاغتراب نجد الرب يطلب منه أن ينظر
إلى رمل الأرض لأن نسله سيكون مثل رمل الأرض الذي لا يعد (تك 13 : 16 ) ومرة أخرى
عندما أظهر إبراهيم للرب يأسه من الإنجاب نجد الرب يطلب منه أن ينظر إلى نجوم
السماء لأن نسله سيكون كنجوم السماء التي أيضا لا تعد(تك 15 : 5) ، وفي كل مرة كان
إبراهيم يعود إلى الإيمان و يكتسب قوة للاستمرار وكان الرب يحسب له إيمانه براً .
لكن مرور الأيام وعدم
تحقيق الوعود كان يثير التساؤلات مرة أخرى في ذهن إبراهيم عن ما هية وعود الرب
والهدف الذي يرمي إليه، ولا شك أن النفس اهتزت مرات كثيرة تحت ضغط هذه التساؤلات،
وفي إحدى هذه المرات قبل الزواج من هاجر ليصنع نسلا بديلا عن النسل الموعود من
سارة، وهكذا استمر الغموض حتي عندما حان وقت تنفيذ الوعد ضحكت سارة لأن هذا الوعد
لم يعد فقط صعب التصديق بل مثير للضحك!!
وماذا نقول أيضا عن
تقديم إسحق ذبيحة؟ أي عقل بشري يستطيع أن يفهم الدافع وراء هذا المطلب الغريب أو
الهدف الذي يرمي إليه؟ لا شك أن الغموض القاتل كان يسيطر على ذهن إبراهيم وهو سائر
نحو جبل المريا، لكنه على كل حال سار!!
الصورة الكاملة
ولكن بعد نهاية هذه
الأحداث نستطيع أن نرى الصورة الكاملة، وما أروعها من صورة !! لقد صنع الله من
إبراهيم نموذجا للإيمان يمكن لكل الأجيال أن تحتذي به، ولولا هذا الغموض الشديد
والظلام الحالك الذي أحاط بذهن إبراهيم ما كان الإيمان يلمع ببريقه الذي عرفته كل
الأجيال، ولو كان الرب قد شرح لإبراهيم الهدف النهائي من وراء هذا الغموض ما كان
الإيمان بعد إيمانا !! لقد كان الغموض طوال هذا الوقت ضرورياً لصنع الإيمان في قلب
إبراهيم، ولا شك أن إبراهيم بعدما حصد نتائج إيمانه شكر الرب على ليالي الغموض
وصراع الشكوك ودموع الحيرة التي اجتازها ، فكلها صنعت منه أبا للإيمان، وللحديث
بقية.