الجمعة، 26 مايو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (39)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن الصورة الرمزية الرابعة لروح الله ألا وهي صورة «الريح»، وقلنا إنها تشير إلى خفاء وغموض تعاملات الروح في أحيان كثيرة ، حيث لا يستطيع الإنسان أن يفهم تماما الدافع الذي تأتي منه هذه التعاملات ولا الهدف الذي ترمي إليه إلا بعد وقت طويل عندما يكتمل العمل ويظهر في صورته النهائية، حينئذ فقط يدرك الإنسان كمال وجمال عمل الروح الذي عمله من خلال تفاصيل كثيرة اكتنفها الغموض في حينها. ودعونا الآن نرى بأكثر تفصيل هذا الجانب من عمل الروح المبارك في حياة رجال الكتاب المقدس:

إبراهيم

في سن الخامسة والسبعين هبت «الريح » المباركة على إبراهيم تدفعه لكي يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه ويذهب نحو أرض مجهولة لا يعرفها، ولو عرفنا طبيعة الحياة في تلك العصور القديمة وكيف كان الإنسان مرتبطاً بشدة بأرض أجداده وعشيرته حيث يستمد قوته وأمنه من التصاقه بأهله ، لأن القوة والكثرة كانت هي اللغة المتعامل بها في تلك الأرض، لأدركنا عندئذ أن ما قاله الروح لأبرام كان أمرا غريبا غير مفهوم الدافع والهدف، لا يمكن للذهن البشري أن يفهمه في ضوء حقائق الحياة المعتادة. ولابد أن تثور في الذهن تساؤلات من قبيل: ماذا يفعل رجل واحد وامرأته وابن أخيه في وسط شعوب غريبة كثيرة العدد والعتاد ؟ وما هو المقابل الذي يستحق كل هذه المعاناة؟ وألا يعتبر ترك الأرض والعشيرة نوعا من الخيانة والعقوق وهروبا من المسئولية ؟!

لكن لا شك أن شدة «الريح» كانت أقوى من أي تساؤل ثار في ذهن إبراهيم حتى أنه لم يستطع مقاومة الروح وسار في الاتجاه الذي قاده إليه.

فشل التوقع المسبق

لا شك أن إبراهيم استعان في مقاومته للاعتراضات التي ثارت في ذهنه بتوقعاته المسبقة للأحداث. لا شك أنه توقع نجاحا سريعا نتيجة لطاعته، وذرية كثيرة تعوضه عن الأهل الذين تركهم... إلخ، وكثيرا ما يستعين الإنسان بالأمل المشرق لكي يحتمل الحاضر المظلم!!

لكن للأسف نجد أن غموض معاملات الروح استمر وازداد ، وبدلا من أن تسير الأحداث كما توقعها إبراهيم نجدها تسير في اتجاه آخر، حيث صادفه الجوع في أرض كنعان مما اضطره للهجرة والكذب أكثر من مرة، ثم انفصل عنه لوط السند الوحيد الذي خرج به من أرض أجداده ، ثم تأخر النسل المتوقع وتوالت السنون تعلن استحالة تحقيق الأمل الذي تعلق به إبراهيم!!

والغريب أنه كلما كانت نفس إبراهيم تخور تحت تأثير الظروف المعاكسة كان الرب يحيى الأمل بداخله من جديد!! فبعد انفصال لوط عنه وزيادة إحساسه بالوحدة والاغتراب نجد الرب يطلب منه أن ينظر إلى رمل الأرض لأن نسله سيكون مثل رمل الأرض الذي لا يعد (تك 13 : 16 ) ومرة أخرى عندما أظهر إبراهيم للرب يأسه من الإنجاب نجد الرب يطلب منه أن ينظر إلى نجوم السماء لأن نسله سيكون كنجوم السماء التي أيضا لا تعد(تك 15 : 5) ، وفي كل مرة كان إبراهيم يعود إلى الإيمان و يكتسب قوة للاستمرار وكان الرب يحسب له إيمانه براً .

لكن مرور الأيام وعدم تحقيق الوعود كان يثير التساؤلات مرة أخرى في ذهن إبراهيم عن ما هية وعود الرب والهدف الذي يرمي إليه، ولا شك أن النفس اهتزت مرات كثيرة تحت ضغط هذه التساؤلات، وفي إحدى هذه المرات قبل الزواج من هاجر ليصنع نسلا بديلا عن النسل الموعود من سارة، وهكذا استمر الغموض حتي عندما حان وقت تنفيذ الوعد ضحكت سارة لأن هذا الوعد لم يعد فقط صعب التصديق بل مثير للضحك!!

وماذا نقول أيضا عن تقديم إسحق ذبيحة؟ أي عقل بشري يستطيع أن يفهم الدافع وراء هذا المطلب الغريب أو الهدف الذي يرمي إليه؟ لا شك أن الغموض القاتل كان يسيطر على ذهن إبراهيم وهو سائر نحو جبل المريا، لكنه على كل حال سار!!

الصورة الكاملة

ولكن بعد نهاية هذه الأحداث نستطيع أن نرى الصورة الكاملة، وما أروعها من صورة !! لقد صنع الله من إبراهيم نموذجا للإيمان يمكن لكل الأجيال أن تحتذي به، ولولا هذا الغموض الشديد والظلام الحالك الذي أحاط بذهن إبراهيم ما كان الإيمان يلمع ببريقه الذي عرفته كل الأجيال، ولو كان الرب قد شرح لإبراهيم الهدف النهائي من وراء هذا الغموض ما كان الإيمان بعد إيمانا !! لقد كان الغموض طوال هذا الوقت ضرورياً لصنع الإيمان في قلب إبراهيم، ولا شك أن إبراهيم بعدما حصد نتائج إيمانه شكر الرب على ليالي الغموض وصراع الشكوك ودموع الحيرة التي اجتازها ، فكلها صنعت منه أبا للإيمان، وللحديث بقية.

 

 

 

الأربعاء، 17 مايو 2023

أحاديث من القلب

سبعة أرواح الله (38)

بقلم : فخرى كرم

بعدما تحدثنا عن الصورة الرمزية للحمامة والتي تشير إلى روح الوداعة، وعن الصورة الرمزية للنار والتي تشير إلى روح الامتحان والقضاء، وعن الصورة الرمزية للمياه والتي تشير إلى روح الارتواء، نبدأ اليوم حديثنا عن صورة رمزية رابعة لروح الله، ألا وهي صورة :

الريح

في حديث الرب مع نيقوديموس شبه عمل الروح بعمل الريح: « الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي  ولا إلى أين تذهب ، هكذا كل من ولد من الروح » ( يو 3 : 8 )

ولقد أكد الروح هذا التشبيه عندما اختار أن يحضر في يوم الخمسين مصحوباً من السماء كما من هبوب ريح عاصفة» ( أع 2 : 2 )  مما يشير إلى أن الله يريد أن يقرب لأذهاننا جانبا آخر من جوانب عمل روح الله المتعددة، وهذا الجانب هو:

العمل الخفي

 الريح خفية لا نستطيع أن نراها ، لأن العين الإنسانية تعجز عن ملاحظة جزئيات الهواء شديدة الدقة، كما أنها لا تستطيع أن ترى مناطق الضغط الجوي التي تتحكم في مسار الريح، كل ما نستطيع أن نراه هو تأثير الريح على الأجسام المرئية، إننا نعرف أن هناك ريح عندما نرى الأغصان تتمايل والأوراق تتطاير والطواحين تدور.

وهذا ما أراد الرب أن يقوله عن عمل الروح، إنه من المستحيل على الإنسان أن يدرك تماما طبيعة عمل الروح أو يعرف على وجه اليقين الدافع المحرك له أو الهدف الذي يرمي إليه، كل ما يستطيعه الإنسان هو معرفة أن الروح يعمل إذا ما رأى تأثيراته في داخل النفس الإنسانية، إذا ما رأينا النفس تتمايل وتسقط تحت تأثير تبكيت الروح، أو رأيناها تطير وتحلق في الآفاق الروحية متحررة من جاذبية الجسد والعالم تحت تأثير تعزية الروح، أو رأيناها تعمل أعمالا روحية نقية وخالية من شوائب الذات الإنسانية الرديئة تحت تأثير مواهب الروح، فعندئذ فقط نعرف أن الروح يعمل!!

قصور إنساني وليس غموض إلهى !!

 إن سر خفاء عمل الروح ليس ميل إلهنا للغموض والاختفاء، حاشا، بل السبب هو قصور الروح الإنسانية عن فهم وملاحظة دقائق عمل روح الله المبارك، إلهنا يريدنا أن نعرف كل شيء (يو ۱۵:۱۵ ) لكن المشكلة هي أننا لا نستطيع أن نفهم أو نقبل كل شيء (يو 16 : 12 ) ولهذا يضطر الرب أحياناً كثيرة للتعامل معنا بشكل خفي وغامض وغير مفهوم.

لقد تمنى الرب أن يشرح لتلاميذه قبل الصليب كيفية سير الأحداث القادمة لكي يحميهم من الخوف والانزعاج، لكن القصور كان في قدرة التلاميذ على الاحتمال، لذلك اضطر الرب أن يتركهم في مهب «الريح» حيث تجرفهم الأحداث وهم لا يفهمون شيئا ، ليس لأنه أراد أن يخفى عنهم عمله بل لأنهم بطيئو القلوب في الإيمان.

نفس المفهوم قاله الرب لبطرس: «لما كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك حيث لا تشاء» ( يو 21 : 18 ) وهو ما يعني أن الإنسان الطبيعي يجب أن يمشي حيث يريد وحيث يفهم، أما الإنسان الروحي فهو يسلم قيادة حياته للروح الذي أحياناً كثيرة يقوده إلى حيث لا يريد ولا يفهم!!

التعامل مع روح «الريح» ليس سهلا على الطبيعة البشرية التي تريد أن تفهم كل شيء قبل أن تتحرك، تريد أن تعرف كيف ستسير الأمور قبل أن تخطو خطوة واحدة في الطريق، الإنسان بطبعه يخشى المجهول ولا يحب السير في طريق غير معروف، لكن من يريد التعامل مع روح «الريح» لابد أن يجتاز كثيراً في الغموض والمجهول!!

السيناريو المسبق

يميل الذهن البشرى دائما لرسم سيناريو مسبق للأحداث المستقبلة لكي يطمئن ويستطيع أن يخطو للأمام، يتخيل كيفية سير الأحداث في الأيام القادمة ويتوقع فيها الخير لكي يجد الدافع للاستمرار، لكن أحيانا كثيرة نجد الله يقود الأحداث في مسار مخالف للسيناريو الذي رسمناه لأنفسنا ويقودنا لأوضاع لم تكن في حسباننا مما يجعلنا نشعر بالاضطراب، والحقيقة أن سبب اضطرابنا ليس المسار الذي اختاره الله لنا بل مخالفة هذا المسار لتوقعاتنا المسبقة، إن خطورة توقع سيناريو مسبق للأحداث هو أننا نفقد مرونتنا في يد روح «الريح» ولا نستطيع أن نميل معه حيث يقودنا بسهولة ويسر، وهذا ما سنراه بوضوح أكثر في المرات القادمة بإذن الله.

 

 


الجمعة، 12 مايو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (37)

بقلم : فخرى كرم

قلنا عن روح المياه المبارك أنه يقدم للإنسان ارتواءً داخلياً ودائماً وسهلاً ونقياً، ارتواءً فائضاً في اتساعه وأبدياً في عمقه ومداه ، ونختتم اليوم حديثنا عن الصورة الرمزية للمياه بتأملنا في بعض الأجزاء الكتابية الخاصة بهذه الصورة.

أرواح الجفاف

« إذا خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن  ليس فيها ماء يطلب راحة»

(مت مت 12 : 43 )

 أرواح الشر تبحث عن راحتها في الأماكن التي ليس فيها ماء، أي التي ليس فيها عمل للروح القدس، لأن عملها معاكس لعمل روح المياه المبارك، إنها تعمل لتجفيف المنابع في حياة الإنسان مما يؤدي إلى العطش واليبوسة ومن ثم إلى الموت النفسي والروحي، إن  كل شيء تلمسه أرواح الشر يتحول إلى الجفاف واليبوسة، العلاقات الاجتماعية التي من المفترض أن تكون مصدراً لراحة الإنسان تتحول إلى مصدر للضيق والحزن، الممتلكات المادية التي من المفترض أن تمنح الإنسان السعادة تتحول تحت سطوة أرواح الشر إلى مصدر للكآبة والخوف والقلق... وهكذا تتحول حياة الإنسان إلى أرض جدباء ليس فيها ماء.

ترك لوط إبراهيم مع خيمته المتواضعة ومذبحه المقدس واختار أن يسكن في أرض خصبة كجنة الرب بحثا عن حياة أكثر راحة وارتواء، لكن بسبب أرواح الشر التي سادت وامتلكت شعوب تلك المنطقة تحولت هذه الأرض عينها إلى سبب للألم والعذاب والخسارة طوال حياة لوط، وبدلا من أن تكون «جنة» أصبحت «جحيماً» يحرق بيته وأولاده وكرامته وكل شيء، بينما كان إبراهيم في هذا الوقت ينعم بالشبع والارتواء الداخلي تحت سلطان روح المياه المبارك.

الروح النجس إذا تمكن من الإنسان يجعله «ييبس» (مر9 : 18 ) حتى عندما أحاطت أرواح الشر بشخص الرب له كل المجد على الصليب حولت رطوبته إلى يبوسة القيظ (مز 32 : 4 ) ويبست مثل شقفة قوته (مز 22 : 15 ) . ويل لمن يقع تحت سلطان أرواح الشر هذه ، إنه حقا بائس ومسكين.

دعوة للارتواء

« البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد، لسانهم من العطش قد يبس ، أنا الرب أستجيب لهم... أفتح على الهضاب أنهاراً وفي وسط البقاع ينابيع، أجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه » ( إش 41 : 17 ، 18 )

لمثل هؤلاء المساكين الذين وقعوا تحت سلطان أرواح الشر يقدم الرب هنا دعوة للارتواء، إذا وضعوا حياتهم تحت سلطان روح الله المبارك فهو يحول الأرض اليابسة إلى جداول مياه وواحة ارتواء، ويطرد أرواح الشر من الحياة لأنها لا تستطيع أن تعيش حيث توجد المياه !!

أحيانا نظن أننا لو لم نمر بظروفنا القاسية الحاضرة لكان وضعنا أفضل وراحتنا أكثر، لو لم نجتاز الهضاب الوعرة والبرية القاحلة لكان هذا أفضل، لكن الرب هنا يقدم لنا وعدا أن هذه الهضاب نفسها ستحمل لنا الارتواء وهذه البرية ذاتها ستجرى فيها الأنهار، هذا هو سلطان روح الله المبارك إذا وضعنا أمامه حياتنا بكل ما فيها من آلام وجفاف ويبوسة.

كانت مريم ومرثا تظنان أن الأفضل لو لم يمت أخاهما ، لكن الرب حول بحضوره هذا الموت عينه إلى مادة للفرح والتعزية والابتهاج، وظن إبراهيم أن تقدمه في السن هو شيء سييء لكن الرب حول هذا الأمر عينه إلى مادة للمعجزة التي خلدت على مدار السنين، وظن يوسف أن عبوديته وسجنه هي مرحلة جدباء في حياته لكنه اكتشف أن روح الله قادر أن يستخدم هذه المرحلة عينها لنضوجه ومجده !!

هل تقبل دعوة الرب للارتواء؟ هل تضع حياتك تحت سلطان روح الله القدوس ؟

تحذير !!

« يا أبي إبراهيم ، ارحمنى وأرسل لعازر ليبل طرف اصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب» ( لو ۱6 : 24)

أما كل من لا يقبل دعوة الرب للارتواء ويظل واضعاً حياته تحت سلطان أرواح الشر فلابد أن يأتي يوما يشتهى فيه قطرة ماء واحدة ولا يجد!! سيشتهي لمسة واحدة أو كلمة واحدة من تلك التي يستهين بها اليوم ولكن الوقت سيكون قد فات، لذلك ليتك تفتدي الوقت وتضع حياتك الآن في يد روح المياه المبارك قبل فوات الأوان (يتبع).

 

الثلاثاء، 2 مايو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (36)

بقلم : فخرى كرم

تكلم الكتاب عن الروح القدس في (إر 2 : 13 ) باعتباره ينبوع الماء الحي، إشارة إلى أن الارتواء الذي يعطيه الروح للإنسان هو ارتواء من الداخل وليس من الخارج، وارتواء دائم في كل الظروف وليس مؤقتا ، كما أنه ارتواء سهل لا يحتاج إلى مجهودات الإنسان العقيمة، وارتواء نقى غير مشوب بعكارة الأرض . واليوم سنضيف من أقوال الرب في إنجيل يوحنا أبعاداً جديداً لهذا الارتواء المبارك، فهو أيضا

ارتواء أبدى

في حديث الرب مع المرأة السامرية قال لها: «كل من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية» وهنا يشير الرب مرة أخرى إلى عطية الروح باعتبارها ينبوع ماء ولكنه يضيف أن هذا البنيوع ينبع إلى مدى أبدی، والأبدية لا تعني فقط المدى الزمني غير المحدود بل تعني أيضا العمق غير المحدود، فالحياة الأبدية لا تعني فقط الحياة إلى مدى زمني غير محدود لأن الأشرار سيظلون أيضا في جهنم إلى مدى زمني غير محدود ، لكن الحياة الأبدية تعني الحياة التي تربط بين أعماق الإنسان وأعماق الله غير المحدود، إنها شركة مع الله غير محدودة في عمقها وفي مداها ، لذلك نحن نتمتع بالحياة «الأبدية» ونحن بعد على هذه الأرض المؤقتة.

لقد جعل الله الأبدية في قلب الإنسان (جا 3 : 11 ) وهذا يعني أن الإنسان بداخله جوع للأمور الأبدية، الحيوان يكفيه من الحياة أن يأكل ويشرب أما الإنسان فلا يستطيع أن يحيا بالخبز وحده ، نسمة الله التي في داخله تجعله يتوق إلى شركة مع الله لا حدود لمداها ، شركة تصل إلى كل أعماقه الأبدية وتشبعها، الإنسان يحتاج إلى حب أبدى ( إر ۳:۳۱ ) وفرح أبدى ( إش 61 : 7 ) وحماية أبدية (تث 33 : 27 ) ... إلخ.

لذلك فكل المشاعر الإنسانية السطحية والعلاقات الاجتماعية الخارجية لا تستطيع أن تشبع العمق الأبدي في قلب الإنسان، وهذا ما أراد الرب أن يقوله للسامرية التي اختبرت علاقات اجتماعية متعددة ومشاعر عاطفية متنوعة ومع ذلك ظل عطش قلبها كما هو، لم يستطع أي إنسان أن يملأ قلبها الأبدي، الأمر الذي لا يستطيعه سوى روح المياه المبارك لأنه ينبع إلى العمق الأبدي في قلب الإنسان.

هل اختبرت هذا الارتواء الأبدى أم مازلت تأمل خيراً في مياه كل من يشربها يعطش أيضا ؟!

ارتواء فائض

في اليوم الأخير العظيم من العيد نادى يسوع قائلا «إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب، من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي» ويؤكد لنا يوحنا أن الرب قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون مزمعين أن يقبلوه.

وفي هذا الجزء يضيف الرب أن ارتواء الروح ليس ذاتياً محدوداً باحتياج الإنسان بل هو فائض يملأ الكيان ثم يجري أنهارا لارتواء الآخرين أيضا، ولأن طبيعة الروح هي المحبة والعطاء لذلك بمجرد أن يجد لنفسه أرضا في قلب إنسان ما نجده يفيض منه إلى كل المحيطين به، انظر إلى الرب يسوع أثناء حياته على الأرض ستجد أن كل من اقترب منه نال الشفاء، ذلك لأن الروح الذي فيه من طبعه الفيض والانتشار بل انظر إلى التلاميذ بعد يوم الخمسين ستجد نفس الميل للفيض والانتشار حتى أن ظل بطرس ومآزر بولس نشروا الشفاء في كل مكان!!

لا نجد هذا الميل والانتشار في متع العالم وملذاته التي تتميز دائما بالأنانية والذاتية، وفي سبيل حصولنا عليها نضطر أحيانا أن ندوس على الآخرين، وإذا حصلنا عليها لا نستطيع أن نقتسمها مع الآخرين لأنها محدودة وإذا توزعت على أكثر من فرد نقصت قيمتها، أما عطية الروح فهي العطية الوحيدة التي إذا تشاركنا فيها مع الآخرين ازدادت، ألم يقل الكتاب: «المروي هو أيضا يروى » (أم 11 : 25 ) كلما أعطيت الآخرين من المياه التي عندك ستجد أنها تزداد وتفيض كالأنهار، أما إذا أردنا أن نحصرها في ذواتنا سنجد هذا الفيض يتوقف!! ولنا في قصة الأرملة ودهنة الزيت مثلا (۲مل 4 ) كلما كانت هناك أواني فارغة كلما فاضت دهنة الزيت وملات كل الأواني، وعندما لم يعد هناك المزيد من الأواني الفارغة توقف الفيض!!

هل يشعر المحيطون بك بهذا الفيض من داخلك ؟! (يتبع).