رجل أفاد أجيال ، ومازال
كرنيليوس فان دَيك
(1818- 1895)
هو
رجل أعتبره صاحب فضل مباشر علىّ وسبب بركة غامرة لى، كما أثق أن كثيرين يشاركوننى
هذا الشعور أيضاً. ففى صباى كنت كلما قرأت الكتاب المقدس باللغة العربية، وكلما
حصّلت فائدة منه، كلما تسألت عن كيف وصل إلى يدى هكذا بلغتى، فرحت أقرأ كل ما
امتدت إليه يدى عن هذا الأمر. ودعنى اليوم أعرّفك بصاحب الفضل الأكبر فى وصوله بين
يديك، رغبة فى أن نتعلم من حياته.
فى
مقال نُشر عنه فى جريدة الأهرام عدد 16/3/2001 ، تحت عنوان "كرنيليوس فان دَيك، من رواد
تحديث الثقافة العربية، إعادة اكتشاف مستشرق غربى" ، شملت هذه المقالة سيرته وإنجازاته، كان
من ضمن ما قيل عنه: "(كان من الذين) أفادوا الثقافة العربية الحديثة بل
وشاركوا فى تأسيسها فى القرن التاسع عشر بنية حسنة وبود صادق... لعب فان دَيك
دوراً مهماً فى تحديث العلوم عند العرب فى القرن التاسع عشر... ولم يترك للثقافة
العربية مؤلفاته وترجماته فقط، بل ترك تلاميذه واصلوا طريق التحديث والتنوير"
ولد
فى بلدة كندرهوك بولاية نيويورك فى 13 أغسطس 1818، لأبوين من أصل هولندى، فى عائلة
رقيقة الحال.
فى شبابه تعلم، اللغات اللاتينية واليونانية بالإضافة للإنجليزية والهولندية.
لم يعطله فقر عائلته عن الدرس، فقد كان يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها بقليل
من المال كان يكتسبه من عمل يعمله، أو يحفظ غيباً ما يسمعه من محتوى الكتب. حتى
رتب له الرب طبيباً كريماً سمح له باستعمال مكتبته الخاصة. وقد درس باجتهاد الصيدلة
والطب والرياضيات، حتى نال الدكتوراة فى الصيدلة من جامعة جفرسن فى فيلادلفيا سنة
1839.
بعد
ذلك تأكد كرنيليوس، وكان شاباً غيوراً مُحباً للرب، من دعوة الرب له أن
يخدمه كمرسل فى بلاد الشام، رغم علمه بصعوبة الحياة هناك آنذاك، وكان قد
بلغ من العمر الحادية والعشرين.
سافر
بالبحر، مع مجموعة من رفقائه المرسلين، فى رحلة مرهقة استغرقت شهرين كاملين. عند
وصولهم لبيروت، فى إبريل 1840 ، تم حجزهم للحجر الصحى لمدة 14 يوماً، لم يهدر كرنيليوس
هذا الوقت فبدأ فى تعلم اللغة العربية خلالها، ويقال إنه تعلم حوالى 200
كلمة فى هذا الوقت القصير. وفى بداية إقامته فى بيروت تعرف بالمعلم بطرس البستانى
الذى صار له صديقاً ورفيقاً فى عمل عظيم بعد ذلك. انكب على دراسة اللغة العربية،
بمساعدة الشيخين ناصيف اليازجى ويوسف الأسير، فأجادها كتابة ونطقاً حتى أنه ألـّف
كتاباً عن الشعر العربى! لم يكن هذا الكتاب هو الوحيد فى تاريخه، فلقد ألـّف الكثير
من الكتب فى الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والتاريخ. كما و استمر
فى دراسة اللغات فأضاف لرصيده العبرية والسريانية والكلدانية.
وفى
صيف 1843 أسست الإرسالية مدرسة فى قرية "عبية"، كان يدرس فيها فان ديك
ويضع مناهج المدرسة مع رفيقه البستانى. وفى المساء كان يعظ الجميع بمواظبة مدهشة.
ثم انتقل إلى صيدا ليعمل فيها حتى 1853. عاد بعد ذلك للولايات المتحدة حيث درس
أحدث الاكتشافات الطبية فى علم الجراثيم، وعاد يحمل معه أول مجهر طبى يُستخدم
فىالشرق الأوسط.
توفى
الدكتور عالى سميث، والذى كان قد شرع فى ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية من اللغات
الأصلية مباشرة سنة 1848، وبعد وفاته عُهد إلى كرنيليوس فان ديك بإكمال العمل سنة
1857. انكب فان ديك على العمل بتفان كبير، وكان يقضى الساعات الطوال
بين الكتب والقواميس والمعاجم، مدققاً فى معنى كل كلمة فى اللغات الأصلية مصلياً
ليقوده الرب للتعبير العربى السليم لها. فى نهاية مارس 1860 كان قد أنجز طباعة
العهد الجديد.
سافر
بعد ذلك إلى ألمانيا، وهناك قابل بعض المستشرقين الألمان واستفاد من خبراتهم
لترجمة العهد القديم. عاد ليستكمل عمله، فأنجز ترجمة العهد القديم فى 22 أغسطس
1864. وبذلك أتم ترجمة الكتاب المقدس كله بعد 16 سنة من العمل المتواصل هو
مجموع عمل كل من سميث وفان ديك. وهكذا أنجز أروع وأبقى أعماله (بالإضافة
للتأليف فقد أسس فان ديك مدرسة طبية ومرصداً ومطبعة وجمعية أهلية ومستوصفاً لأمراض
العيون، ومارس الطب فى مستشفى كبير، وشارك فى الكثير من المشروعات القوية الأخرى)
كتب
كرنيليوس فى نهاية مخطوطة الترجمة" لا أكاد أصدق أنى كنت أعيش فى العالم، فقد كان صعباً علىّ
إدراك أن عمل السنين الطوال قد اكتمل. إن قلبى ينبض كطرقات المطرقة، ووجَدَت
عواطفى متنفساً بالسقوط على ركبتىّ وتقديم الشكر لله من أجل نعمته وصلاحه إذ منحنى القوة على
إنجاز عملى حتى النهاية"
وبمرور
50 سنة له فى بيروت منحه السلطان العثمانى النيشان المجيدى تقديراً لجهوده
المتعددة.
وفى
13 نوفمبر 1895 ، إثر إصابته بحمى تيفودية، انطلق ليكون مع المسيح مستريحاً من
كـدّه بعد أن أكمل جهاده بكل نجاح، تذكره له أجيال الناطقين بالعربية إلى
يومنا هذا، والأهم من الكل: أن إلهه الغنى لن ينسى له عمراً قضاه لمجد سيده.
وقد
أوصى أن تقتصر جنازته على قراءة 1 كورنثوس 15 ومزمور 90 وألا تحتوى كلمات تأبين له
أو خُطب، فقال عنه أحدهم :" إن وصيته هى أعظم من كل المواعظ التى نطق بها
الفقيد فى حياته" ، وقال عنه آخر "إنسان وضع نفسه بين يدى خالقه، فاستخدمه الله بأفضل
ما يمكن"
أسألك
عزيزى القارئ أن تعود ببصرك إلى الكلمات المكتوبة بخط مميز وتتأمل مغزاها بعمق،
فهى تحمل لك الكثير من الدروس:
فى شبابه تعلـّم .. لم يعطله فقر عائلته.. درس باجتهاد... وكان
شاباً غيوراً مُحباً للرب.. رغم علمه بصعوبة الحياة... لم يهدر الوقت... واستمر فى
الدراسة... بمواظبة... انكب على العمل بتفان كبير.. مدققاً... مصلياً... بالعمل
المتواصل... أنجز أبقى أعماله... وتقديم الشكر لله... أكمل جهاده.
صل
أن تتعلم هذه الدروس فتتحقق فى حياتك.