الخميس، 22 مارس 2012



رجل أفاد أجيال ، ومازال
كرنيليوس فان دَيك
(1818- 1895)
هو رجل أعتبره صاحب فضل مباشر علىّ وسبب بركة غامرة لى، كما أثق أن كثيرين يشاركوننى هذا الشعور أيضاً. ففى صباى كنت كلما قرأت الكتاب المقدس باللغة العربية، وكلما حصّلت فائدة منه، كلما تسألت عن كيف وصل إلى يدى هكذا بلغتى، فرحت أقرأ كل ما امتدت إليه يدى عن هذا الأمر. ودعنى اليوم أعرّفك بصاحب الفضل الأكبر فى وصوله بين يديك، رغبة فى أن نتعلم من حياته.

فى مقال نُشر عنه فى جريدة الأهرام عدد 16/3/2001 ، تحت عنوان "كرنيليوس فان دَيك، من رواد تحديث الثقافة العربية، إعادة اكتشاف مستشرق غربى" ، شملت هذه المقالة سيرته وإنجازاته، كان من ضمن ما قيل عنه: "(كان من الذين) أفادوا الثقافة العربية الحديثة بل وشاركوا فى تأسيسها فى القرن التاسع عشر بنية حسنة وبود صادق... لعب فان دَيك دوراً مهماً فى تحديث العلوم عند العرب فى القرن التاسع عشر... ولم يترك للثقافة العربية مؤلفاته وترجماته فقط، بل ترك تلاميذه واصلوا طريق التحديث والتنوير"

ولد فى بلدة كندرهوك بولاية نيويورك فى 13 أغسطس 1818، لأبوين من أصل هولندى، فى عائلة رقيقة الحال.

فى شبابه تعلم، اللغات اللاتينية واليونانية بالإضافة للإنجليزية والهولندية.

لم يعطله فقر عائلته عن الدرس، فقد كان يستعير الكتب من رفاقه أو يستأجرها بقليل من المال كان يكتسبه من عمل يعمله، أو يحفظ غيباً ما يسمعه من محتوى الكتب. حتى رتب له الرب طبيباً كريماً سمح له باستعمال مكتبته الخاصة. وقد درس باجتهاد الصيدلة والطب والرياضيات، حتى نال الدكتوراة فى الصيدلة من جامعة جفرسن فى فيلادلفيا سنة 1839.

بعد ذلك تأكد كرنيليوس، وكان شاباً غيوراً مُحباً للرب، من دعوة الرب له أن يخدمه كمرسل فى بلاد الشام، رغم علمه بصعوبة الحياة هناك آنذاك، وكان قد بلغ من العمر الحادية والعشرين.

سافر بالبحر، مع مجموعة من رفقائه المرسلين، فى رحلة مرهقة استغرقت شهرين كاملين. عند وصولهم لبيروت، فى إبريل 1840 ، تم حجزهم للحجر الصحى لمدة 14 يوماً، لم يهدر كرنيليوس هذا الوقت فبدأ فى تعلم اللغة العربية خلالها، ويقال إنه تعلم حوالى 200 كلمة فى هذا الوقت القصير. وفى بداية إقامته فى بيروت تعرف بالمعلم بطرس البستانى الذى صار له صديقاً ورفيقاً فى عمل عظيم بعد ذلك. انكب على دراسة اللغة العربية، بمساعدة الشيخين ناصيف اليازجى ويوسف الأسير، فأجادها كتابة ونطقاً حتى أنه ألـّف كتاباً عن الشعر العربى! لم يكن هذا الكتاب هو الوحيد فى تاريخه، فلقد ألـّف الكثير من الكتب فى الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والتاريخ. كما و استمر فى دراسة اللغات فأضاف لرصيده العبرية والسريانية والكلدانية.

وفى صيف 1843 أسست الإرسالية مدرسة فى قرية "عبية"، كان يدرس فيها فان ديك ويضع مناهج المدرسة مع رفيقه البستانى. وفى المساء كان يعظ الجميع بمواظبة مدهشة. ثم انتقل إلى صيدا ليعمل فيها حتى 1853. عاد بعد ذلك للولايات المتحدة حيث درس أحدث الاكتشافات الطبية فى علم الجراثيم، وعاد يحمل معه أول مجهر طبى يُستخدم فىالشرق الأوسط.

توفى الدكتور عالى سميث، والذى كان قد شرع فى ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية من اللغات الأصلية مباشرة سنة 1848، وبعد وفاته عُهد إلى كرنيليوس فان ديك بإكمال العمل سنة 1857. انكب فان ديك على العمل بتفان كبير، وكان يقضى الساعات الطوال بين الكتب والقواميس والمعاجم، مدققاً فى معنى كل كلمة فى اللغات الأصلية مصلياً ليقوده الرب للتعبير العربى السليم لها. فى نهاية مارس 1860 كان قد أنجز طباعة العهد الجديد.

سافر بعد ذلك إلى ألمانيا، وهناك قابل بعض المستشرقين الألمان واستفاد من خبراتهم لترجمة العهد القديم. عاد ليستكمل عمله، فأنجز ترجمة العهد القديم فى 22 أغسطس 1864. وبذلك أتم ترجمة الكتاب المقدس كله بعد 16 سنة من العمل المتواصل هو مجموع عمل كل من سميث وفان ديك. وهكذا أنجز أروع وأبقى أعماله (بالإضافة للتأليف فقد أسس فان ديك مدرسة طبية ومرصداً ومطبعة وجمعية أهلية ومستوصفاً لأمراض العيون، ومارس الطب فى مستشفى كبير، وشارك فى الكثير من المشروعات القوية الأخرى)

كتب كرنيليوس فى نهاية مخطوطة الترجمة" لا أكاد أصدق أنى كنت أعيش فى العالم، فقد كان صعباً علىّ إدراك أن عمل السنين الطوال قد اكتمل. إن قلبى ينبض كطرقات المطرقة، ووجَدَت عواطفى متنفساً بالسقوط على ركبتىّ وتقديم الشكر لله من أجل نعمته وصلاحه إذ منحنى القوة على إنجاز عملى حتى النهاية"

وبمرور 50 سنة له فى بيروت منحه السلطان العثمانى النيشان المجيدى تقديراً لجهوده المتعددة.

وفى 13 نوفمبر 1895 ، إثر إصابته بحمى تيفودية، انطلق ليكون مع المسيح مستريحاً من كـدّه بعد أن أكمل جهاده بكل نجاح، تذكره له أجيال الناطقين بالعربية إلى يومنا هذا، والأهم من الكل: أن إلهه الغنى لن ينسى له عمراً قضاه لمجد سيده.

وقد أوصى أن تقتصر جنازته على قراءة 1 كورنثوس 15 ومزمور 90 وألا تحتوى كلمات تأبين له أو خُطب، فقال عنه أحدهم :" إن وصيته هى أعظم من كل المواعظ التى نطق بها الفقيد فى حياته" ، وقال عنه آخر "إنسان وضع نفسه بين يدى خالقه، فاستخدمه الله بأفضل ما يمكن"

أسألك عزيزى القارئ أن تعود ببصرك إلى الكلمات المكتوبة بخط مميز وتتأمل مغزاها بعمق، فهى تحمل لك الكثير من الدروس:

فى شبابه تعلـّم .. لم يعطله فقر عائلته.. درس باجتهاد... وكان شاباً غيوراً مُحباً للرب.. رغم علمه بصعوبة الحياة... لم يهدر الوقت... واستمر فى الدراسة... بمواظبة... انكب على العمل بتفان كبير.. مدققاً... مصلياً... بالعمل المتواصل... أنجز أبقى أعماله... وتقديم الشكر لله... أكمل جهاده.

صل أن تتعلم هذه الدروس فتتحقق فى حياتك.





ما هو السجود؟
أنه الإكرام والمدح الذي يقدم لله لأجل ما هو في ذاته، وما هو للساجدين.
والسجود هو مهمة السماء، ولكنه امتياز مبارك ثمين لنا ونحن على الأرض أن نتمتع به، وأستطيع أضيف على التعريف السابق للسجود أنه يقدم لله جماعيًا.
وفي قولي هذا لا أريد أن أبحث في مسألة إمكانية السجود فرديًا بمعزل عن الجماعة[1]، ولكني أقرر أنه لا يقدم هكذا، لذلك فالحق من جهة السجود في حده الأدنى أنه في الواقع الاحترام والتقدير المقدم جماعيًا، سواء كان بواسطة الملائكة أو الناس، ومن ثم تنشأ وحدانية الساجدين في الفكر من جهة ما يعملون، لأنهم جميعًا متشاركون في البركة، والفرح الذي لواحد منهم لأجل نصيب الآخرين من البركة هو جزء من بركته، لأن بركتهم هي أحد جوانب النعمة التي يتجاوب معها قلبي، وإن لم أسعد بما لهم من بركة فإن محبتي التي هي مصدر هذا الفرح تكون معيبة. وأن لم أحمد الرب لأجلهم أكون غير قادر على السجود، لأن مدح الله يستلزم أن أكون شاعرًا بمحبته، مما يجعلني أحب بالتالي.
ولا أريد بهذا أن أحدَّ نفسي في تعريف جامد للسجود، بل على العكس، ولكن حسنًا أن تكون عندنا فكرة محددة عن ماهية السجود.
إذن السجود ليس هو عمل الله في الإنسان، ولا هو الشهادة عنه وعن نعمته. كما أنه ليس هو الكرازة بالإنجيل لغير المؤمنين، وإن كان هذا يمكن أن ينشئ السجود كوسيلة للتعبير عن معرفة الله في النعمة التي تحيي روح العبادة في القلب، ولكن التبشير في حد ذاته، مهما كان مباركًا، ليس سجودًا[2].
في الصلاة نخاطب الله لكي ننال ما نحن نحتاج إليه، وهذا لا يصح تسميته سجودًا، وإن كان مرتبطًا به، لأنه يُفترض في المصلي معرفة الله ووجود الثقة فيه، كما أن فيها اقتراب إلى الله بفضل ما هو في ذاته وما هو بالنسبة للمتقدم بالصلاة إليه، صحيح أن التضرعات التي ترفع إلى الله، تكون مبنية على الثقة فيه، وبالتالي فهي مرتبطة بالعبادة، ولكن ليس لها الخصائص التي للعبادة ذاتها.
أما التسبيح والشكر، والتغني بصفات الله وأعماله، سواء عمل نعمته أو أعمال قوته، فهي ما يشكل في مجموعه ما يمكن أن يسمى بحق سجودًا، ونحن في هذه الأمور نقترب إلى الله، ونقدم ذواتنا له. وعندما نتكلم فضائله إلى بعضنا البعض، وإن كنا عندئذ لا نتكلم إليه مباشرة، ولكن لا شك أن هذا يكون مرتبطًا بالسجود، والقلب يرفع هذا المدح إليه، ولكن لا يكون لهذا المديح صورة السجود الكاملة، وأن كان من الممكن أن يتداخل معه كشيء يستتبع السجود، مثلما هو الحال بالنسبة للصلاة التي تنشئها العبادة. وهذا التمييز بين الأشياء لا ينبغي أن ينظر إليه كشيء قليل الأهمية، لا شك أنه من الرائع أن نذكِّر بعضنا بعضًا بفضائل محبوبنا، ولكن المفديين يبتهجون بأن يكون الله ذاته في أفكارهم، ويسرون أن يقدموا ذواتهم إليه، ويتكلمون إليه، ويعبدونه شخصيًا متحدثين إليه فاتحين له قلوبهم ليعبروا له عن محبتهم له. كما أنه فرح الفادي أن تكون هذه المداولة شخصية بين المفديين والله مباشرة، وهم يفرحون بأن يعبروا له عن إحساسهم بعظمته وصلاحه. وفي مثل هذه الحالة يكون التواصل مباشرًا بيننا وبين الله، ويكون الله غاليًا جدًا على قلبي أكثر حتى من غلاوة إخوتي، ويكون هذا هو شعور كل أخ أيضًا، وهكذا يكون الله هو النصيب المشترك لنا. وباختصار فإننا في الحالة الأولى تكلمنا إلى أنفسنا أو إلى بعضنا البعض عن أن الله مستحق للسبح، ولكن في السجود تقدمنا شخصيًا وخاطبنا الله نفسه، ومن الواضح – أو على الأقل هو واضح لمن عرفوا الله – أن الحالة الأخيرة هي الأسمى ولها بركة عظيمة أخَّاذة، لا يتمتع بها كثيرون، إذ تكون العواطف الروحية رفيعة، وبهذا تكمل الشركة بصورة أعظم.

يبقى هناك عنصر آخر لعبادتنا العاقلة، وهو طبيعة "الآب" فالله ينبغي أن يسجد له "بالروح والحق" ذلك لأنه هو روح، ولكنه كالآب "طالب مثل هؤلاء الساجدين له".
فالسجود بالروح معناه أن نسجد بحسب طبيعة الله الحقيقية وبقوة الشركة التي ينشئها روح الله، وهذا يكون سجودًا بالروح بالمقابلة مع الطقوس والشعائر وكل صور التدين التي يستطيع أن يعملها الجسد.
كان السامريون يسجدون لله، ولكن ليس بالروح ولا بالحق، أما اليهود فكانوا يسجدون له بالحق على قياس الإعلان المحدود الذي كان عندهم، ولكن لم يسجدوا له بالروح على أي قياس على الإطلاق. ولكن السجود لله الآن يتطلب الأمرين معًا، فينبغي السجود له بحسب الإعلان الكامل عن ذاته، وهكذا يكون "السجود بالحق"، ويجب أن يكون السجود بحسب طبيعته، وهذا يستلزم "السجود بالروح".
ولكن هذا ليس كل ما نتعلمه من كلام الرب يسوع مع السامرية، ولكننا نجد عنصرًا آخر ثمينًا للسجود. فالآب طالب مثل هؤلاء الساجدين، والنعمة النابعة من المحبة الفائضة إلى هؤلاء الساجدين هي التي تصنعهم، لذلك فالسجود لا يقدم تحت مسؤولية موضوعة على الساجدين بواسطة لهيب النار الذي كان في جبل سيناء، الذي بينما يطلب السجود باسم جلال الإله القدوس يضع حجابًا يعترض الطريق إلى الله لا يستطيع أن يعبره أحد، ومن يحاول فقصاص الموت ينتظره، ذلك الحجاب الذي أبقى الساجد بعيدًا عن الله، مرتعدًا ينتابه الشعور بالمسؤولية. حتى ولو كانت الامتيازات  التي أعطاها له الله تشجعه، فهو لا يجرؤ على الاقتراب. أما المحبة فهي تطلب ساجدين، ولكنها تطلبهم تحت الاسم الحلو "الآب"، فتضع الساجدين في الحرية أمامه كأولاد محبته. والروح الذي يعمل فيهم وينتج هذا السجود هو "روح التبني" الذي يصرخ "يا أبَّا – الآب". ليس معنى ذلك أن الله أنقص من هيبته، بل إنه بكل جلاله صار معروفًا بصورة أعظم، وفي الصفة الأحلى والدالة على المحبة التي للآب. والروح الذي يقودهم إلى السجود للآب يقودهم أيضًا إلى الفهم والتمتع بكل محبة الله الذي يريد منا أن نعبده كأولاده.
إن التمتع بهذه المحبة وهذه الامتيازات وتقديم الشكر لله هو من حق حتى أبسط المؤمنين وأقلهم إدراكًا، فالمسيحي متى فهم ما هي نعمة الله وقبل الروح القدس صار له بلا جدال أن يتمتع بها كولد يعرف أبيه ويحبه ويتمتع به دون أن يحتاج إلى أن يقيم الدليل على حقيقة ما يتمتع به. لذلك يقول يوحنا الرسول مخاطبًا الأولاد المولودين حديثًا "أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم عرفتم الآب" (1يو2: 13). فأضعف مسيحي مؤهل تمامًا للسجود، لكن في نفس الوقت حسنًا أن أكون قادرًا على تقدير وفهم هذه العلاقة مع الله، وعلى قدر ما نفكر فيها، وعلى قدر ما نفحص الكلمة من جهة هذه العلاقة، على قدر ما ندرك أهميتها وعمق البركة التي فيها. إن الحقيقة البسيطة أن الله هو أبونا، وأنه قد صار لنا أن نتمتع بهذه العلاقة معه بالروح القدس هي في حد ذاتها امتياز لا حدود له لمخلوقات نظيرنا، ولكل واحد من أولاد الله الحق في التمتع بهذا الامتياز، ولكن فقط في المسيح، ومع المسيح، فهو "بكر بين إخوة كثيرين"، وقد مضى إلى أبيه وأبينا، وإلهه وإلهنا، فيا لها من علاقة حلوة مباركة، وما أجمل العائلة التي أدخلتنا إليها هذه العلاقة، نحن الذين كنا قبلاً غرباء عن هذه المحبة وهذه العواطف، فكيف نتعلم هذه الأمور، وكيف نعرف الآب، الذي معرفته تولد هذه المشاعر في قلوبنا؟ ليس سوى الابن الوحيد، الذي هو البكر في هذه العلاقة، يستطيع أن يعلن لما الآب. فهو الابن الأزلي للآب، الذي في حضنه، والمتمتع بمحبته غير المحدودة، لذلك فهو يستطيع أن يعلنه كما عرفه.

يوحنا داربى


[1] لا أعتقد في الواقع أنه في إمكان واحد بمفرده تقديم سجود صحيح لله. قد يستطيع الإنسان في حالة البراءة أن يبارك الله لأجل صلاحه، ولكن الآن قد أعلن الله ذاته في المسيح، والسجود الآن ينبغي أن يسمو إلى مستوى هذا الإعلان، وتقديم سجود من كائن بمفرده هكذا يستلزم أن يكون له القدرة التي تضعه في مستوى متناسب مع من يعبده. وفي هذه الحالة لا يكون الله في المكان اللائق به كمعبود، لأنه لا يوجد من يستطيع أن يمجد الله بمفرده، حتى ولو كان هو بمفرده موضوع نعمة الله. هذا ما يبرز أهمية العظمى لأن يكون المسيح أساس السجود،  لأن الله قد تمجد به التمجيد الذي يسمح بتقديم مثل هذا السجود، ومن يعبدونه يسجدون بفضل ما هو الله بالنسبة لهم فيما صنعه المسيح، فالسجود هكذا يكون مؤسسًا على حقيقة أن الله قد تمجد تمجيدًا كاملاً، ونحن نعبده من منطلق إدراكنا لما تمجد به من هذا القبيل.
[2] على قدر ما أتمتع شخصيًا بروح السجود على قدر ما أكون مهيئًا لآن أشهد للآخرين، لأنه فقط في الإمساك بالشركة مع الله نكون في الحالة التي تسمح بأن نشهد عن محبته.

السبت، 3 مارس 2012


الاسم العجيب (56)
قلنا أنه مع احتفاظ سيدنا بوضعية ومقام الابن الأزلي إلا أنه أخذ في ملء الزمان «صورة عبد» ليضيف إلى ألقابه لقباً جديداً هو لقب «عبد الرب»، وليسير على أرضنا كالعبد الكامل مُعطياً لنا قدوة ومثالاً لكل مَن يريد أن يكون عبداً لله، فالعبودية لله شرف لا يدانيه أي شرف على هذه الأرض، وإن كنا لا نستطيع أن نتبع سيدنا في خفايا وأسرار علاقته الأزلية بالآب كالابن الأزلي إلا أننا بلا شك نستطيع أن نتبعه في طريق عبوديته الكاملة لله كالعبد الكامل، فهو الذي ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته المباركة في دروب تواضعه وطاعته الكاملة لمشيئة الآب حتى الموت موت الصليب.
ودعونا الآن ندرس صفات العبد لنرى كيف أنها وصلت إلى كمالها في حياة ربنا المعبود:
(أولاً) العبد لا يعمل مشيئته الخاصة بل مشيئة سيده
كل إنسان منا يملك الحق في أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، لأننا أتينا في زمان ومكان يعطي للإنسان ولو الحد الأدنى من حقه في الحرية والحياة، لذلك أنا أثق أن أحداً منا لم يختبر معنى «العبودية» في حياته، وأخشى أن تكون صفة «عبد» بعيدة عن إدراكنا، فحياة العبد قاسية إلى درجة تفوق تصورنا، وأول أوجه قسوتها أن العبد لا يملك ترف أن يعمل مشيئته، إنه يعيش لكي يفعل مشيئة شخص آخر هو سيده الذي يمتلكه، فالعبد محروم من أبسط أوجه الحرية وهو أن تكون له إرادة حرة، وإن جرَّدت الإنسان من إرادته الحرة فأنت تجرِّده من أهم صفاته المُميِّزة كإنسان، لذلك نحن نتعجب عندما نجد سيدنا يُخلي نفسه من أمجاد كونه ابناً ويختار أن يكون عبداً ويعيش هذه العبودية إلى كمالها!!
العبد لا ينبغي أن يكون له فكره الخاص في سائر الأمور بل ينبغي أن يتبنَّى دائماً فكر سيده، العبد لا ينبغي أن تكون له مشاعره الخاصة بل ينبغي دائماً أن يشعر بمشاعر سيده، العبد ليس من حقه أن يقضي وقته كما يشاء بل كما يخطط له سيده، العبد لا يأكل ويشرب ويستريح حين يحتاج لهذا بل حين يسمح له سيده، بالاختصار نقول أن العبد لا يفعل قط مشيئته الخاصة بل مشيئة سيده.
والعبد لا يخضع لمشيئة سيده فقط فيما «يفعل» بل أيضاً فيما «يكون»!! فالعبد «يكون» في الحالة التي يريد السيد أن يراه عليها، فإذا أراده السيد «محارباً» ينبغي أن يكون محارباً بكل شدة وصلابة المُحارب، وإذا أراده السيد «راعياً» فلابد أن يتحلَّى بكل رقة وصبر الرعاة، ولو احتاجه في يوم مزارعاً فلابد أن يكون مُتقناً لأصول وفنون الزراعة، ولو أراد السيد أن يتكلم فلابد أن يكون العبد مُستمعاً جيداً، ولو أحب السيد يوماً أن يأكل من عمل يدي عبده فلابد أن يكون العبد طباخاً ماهراً!!
فالعبد ليس من حقه أن يختار ما «يفعل» ولا ما «يكون»!! فالعبودية لا تنطبق فقط على الأعمال الخارجية بل على صميم مشاعره ومواقفه الداخلية، فالعبد مُشترى ومُمتلك بالكامل نفساً وجسداً، مُكرَّسٌ في كل حياته لأن «يكون» في الوضع الذي يريده سيده و«يفعل» ما يأمره به، فالعبد يستيقظ في كل صباح وهو لا يعلم الوضع الذي سيكون عليه في يومه الجديد ولا الأعمال التي سيعملها، إنه في حالة انتظار دائم لأن يعرف مشيئة سيده ويعملها، أن عيونه دائماً نحو أيدي سيده لكي يفعل ما يشير به.
ما أصعب حياة العبودية إذاً وما أقساها، وما أعجب سيدي الذي اختار طوعاً أن يحياها!! إن التاريخ لم يشهد إلا أعداداً قليلة من الذين استطاعوا أن يكونوا عبيداً لله، ولكنهم على قلتهم غيِّروا مجرى التاريخ البشري حتى وإن كان النقص دائماً يشوب رسالتهم، وعلى رأسهم جميعاً أتى سيدي ليكون عبد يهوه الكامل، والذي سنحاول بكل خشوع أن نتتبع خطواته ونرى كيف انطبقت في حياته كل صفات العبد بكمال وروعة!! (يتبع)