الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

أحاديث من القلب

 بلاغة السكوت (15)

فخرى كرم

«ولما فتح الختم السابع حدث سكوت في السماء نحو نصف ساعة» (رؤ8: 1)
بعدما تكلمنا عن عدة حالات من السكوت البليغ في أرض الإنسان دعونا نختم هذه السلسلة بحالة سكوت أخيرة سيكون مكانها هذه المرة في السماء، عند فتح الختم السابع والأخير وقبل انسكاب ويلات الأبواق السبعة على الأرض، وهذا التوقيت في السماء يتزامن مع بداية الضيقة العظيمة بتوقيت الأرض.
السماء كان فيها عدة أصوات آن لها أن تسكت!! ولعل أول هذه الأصوات هو صوت المشتكي الذي كان يشتكي على اخوتنا نهاراً وليلاً بلا توقف، صوت مزعج احتمله الله بصبر لسنوات طويلة وبطول أناة عظيمة، صوت قبيح دأب على تشويه صورة أبناء الله أمام عرش أبيهم، صوت كان يستعدي عليهم غضب الله وسخطه، في هذه اللحظة سيسكت هذا الصوت مرة وإلى الأبد، وفي هذا السكوت قمة البلاغة لأنه يعلن فشل شكاية العدو وانهزامه أمام اكتمال خطة الله في فداء وتبرير أبنائه، وهذا السكوت يُعلن أيضاً أن المشتكي لم يعد له مكان في السماء وسيُطرح إلى الأرض، وهذا الطرح سيتزامن مع ويلات الأبواق السبعة التي ستسبب للأرض ضيقة عظيمة لم يكن مثلها منذ بدء الخليقة ولن يكون.
والسماء كان فيها صوت آخر آن له أيضاً أن يسكت، أنه صوت القديسين والشهداء الذين تألموا من الشر الموجود على الأرض ويصرخون أمام العرش طلباً للقصاص، لقد تأنى الرب كثيراً عليهم حتى تكتمل فرص النعمة التي يمنحها للأرض، ولكن مع بداية الأبواق السبعة يعلن الله أنه سيستجيب لكل صلوات ودموع وصراخ عبيده المتألمين منذ بداية الخليقة، وسيكون في غضبه المنسكب على الأرض شفاء لكل جراحهم وأنينهم، وعند رؤيتهم لعدالة الله وعقابه ستسكت أصواتهم المطالبة بالقصاص مرة وإلى الأبد!!
لكن للأسف فإن أجمل الأصوات في السماء سيسكت أيضاً!! إنه صوت الشفيع العظيم الذي لم يكف لحظة عن شفاعته فينا وفي الأرض وحتى في الأشرار، أمام شكاية العدو الدائمة كانت هناك أيضاً شفاعة دائمة، ان الأرض والسماء الموجودة حالياً محفوظة بتلك الكلمة المتشفعة، ان ربنا المبارك هو الحامل لكل الأشياء بكلمة شفاعته المقتدرة، وأمام كل محاولة للمشتكي أن يقتل ويُهلك كانت هذه الشفاعة تعطي نجاة وفرص جديدة للحياة، وأمام كل أمر بقطع الشجرة غير المثمرة كان صوت المتشفع يمنحها سنة أخرى مقبولة!!

ولكن في هذه اللحظة سيسكت هذا الصوت الجميل في السماء، سكوت بليغ يعلن كمال شفاعته ونجاح مقاصده، سيسكت بعدما نجحت شفاعته في خلاص شعبه ورفعهم للمجد وبعدما رفضت الأرض آخر فرص نعمته الممنوحة لها، سيسكت صوت شفيعنا المبارك بعدما أتم عمله بنجاح باهر وأصبح من حقه أن يستريح ويبدأ احتفاله بزفافه إلى عروسه المزينة التي اشتراها بدمه وجمعها من كل قبيلة وأمة وشعب ولسان، سيسكت أجمل الأصوات التي سمعتها السماء على الإطلاق لكن لكي يبدأ بعدها بقليل صوت الفرح والإبتهاج والتهليل الأبدي الذي لن ينتهي إلى الأبد!! إنها نصف ساعة من السكوت في السماء لكنه سكوت بليغ تقشعر من معانيه الأبدان!! (تمت)