الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

أحاديث من القلب


السجود و العطاء
فخرى كرم

«فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومراً» (مت2: 11)
 
عندما تعاملت النعمة مع قلوب هؤلاء المجوس الأغراب تجاوبوا فوراً مع تعاملاتها بالإيمان الحي العامل، الإيمان الذي دفعهم للسفر مسافات شاسعة وشهور طويلة لكي يقدموا سجودهم واعترافهم الحسن أمام طفل بيت لحم، وحالاً بعد السجود فتحوا كنوزهم وقدموا الهدايا، فلا يوجد سجود بدون عطاء، ولا توجد عبادة حقيقية لا يتبعها تكريس للحياة، ولا توجد محبة ذات قيمة لا تعبِّر عن نفسها بالبذل والتضحية!!
ونفس هذه الأمور وبنفس الترتيب تحدث في حياة كل واحد منا، أولاً تتعامل معنا النعمة بأساليبها المختلفة لكي تقودنا للإيمان بربنا يسوع المسيح مخلصاً وفادياً، وعندما نتجاوب بالإيمان الحي مع هذه التعاملات فإنها تقودنا للعبادة والسجود في عرش النعمة، وإذا تعلَّمت نفوسنا كيف تنحني بخضوع وطاعة أمام إلهنا وذاقت حلاوة ومجد الشركة معه فسوف تفتح تلقائياً وبسرور كل كنوزها لتبذلها عند قدميه!!
وهذه الكنوز التي يمكننا تقديمها ثلاثة أنواع:
(1) ذهب: الذهب في كلمة الله يشير عادةً إلى طبيعة الله ولاهوته، ونحن بعد الإيمان يسكن فينا روح الله فنصير شركاء الطبيعة الإلهية، بعد الإيمان نحن نمتلك «كنزاً» في أوانينا الخزفية، وكل عمل نعمله بقيادة وقوة الروح القدس الساكن فينا هو «ذهب» في موازين الله وتقديره، فالله يطلب أن يكون سجودنا «بالروح والحق» (يو4: 23) وأن يكون كلامنا «كأقوال الله» وخدمتنا من «قوة يمنحها الله» (1بط4: 11) أما العبادة والشهادة والخدمة النابعة من كياننا الخزفي فهي قليلة النفع وعديمة القيمة في موازين الله!!
(2) لُبان: هو بخور طيب الرائحة كان يُستخدم في رفع رائحة سرور أمام الله في الهيكل، وهو يشير إلى السلوك الإنساني المُرضي لله والمتمم لوصاياه، ولقد اكتمل رمز البخور في حياة ربنا يسوع المسيح الذي شهد عنه الآب قائلاً «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (مت 3: 17) وأن نقدم لله «لُباناً» يعني أن نسلك في حياتنا العملية سلوكاً يُدخل السرور لقلبه، سلوكاً بحسب مشيئته ووصاياه، سلوكاً يشبه ويقتفي خطوات ربنا يسوع المسيح، الله ينتظر أن نضع أمامه على المذبح محبة وطاعة وقداسة وغفراناً وصبراً وإيماناً..، وكلها ذوات روائح عطرة ومقبولة!!
(3) مُر: هو مادة صمغية شديدة المرارة كانت تدخل في تركيب زيت المسحة المقدس، وهو يشير إلى تعب المحبة الذي نقدمه في حياتنا وخدمتنا لله، فالمحبة تُقاس بحجم الألم الذي نتكبده لأجل مَن نحب، فالرب عندما أحبنا أسلم نفسه لأجلنا ونحن إذا أحببناه وأردنا أن نتبعه فلابد أن نحمل صليباً، إن تعب المحبة الذي نقدمه في حياتنا وخدمتنا للرب ذو قيمة عظيمة في عينيه، فهو يحفظ دموعنا عنده في زقٍ مثل الكنز الثمين حتى يمسحها بيديه في الأبدية!!
ليتنا في العام الجديد نفتح كنوزنا ونقدم هدايانا لربنا المعبود، وكل عام وأنتم بخير. 

الأحد، 8 ديسمبر 2013

أحاديث من القلب



     الاسم العجيب (74)
 فخرى كرم
مازلنا بصدد الحديث عن ملكوت ربنا يسوع المسيح الذي سيُعلن في مجيئه الثاني، عندما يعرف الجميع اسمه المكتوب على فخذه «ملك الملوك ورب الأرباب»!! وقلنا أن ملكوت ربنا سيختلف جذرياً عن أي ملكوت آخر عرفته الأرض، فمن جهة «الشرعية» هو يستمد شرعيته من الله وليس من البشر، واليوم نضيف أن ملكوت ربنا يختلف أيضاً من جهة أخرى:
(2) امتداد الملكوت
كل ملوك الأرض حلموا بامتداد نفوذهم إلى كل الأرض، وسعوا لاتساع ملكوتهم بقدر المستطاع، ووصل بعضهم فعلاً إلى مشارف كل المسكونة مثل الإسكندر الأكبر، ولكن سرعان ما كانت أحلامهم تتكسَّر على صخور الواقع أو تنتهي حياتهم قبلما تتحقق تلك الأحلام، ولم تنمو مملكة وتتمدد إلا وسرعان ما تنكمش وتتفتت، ولم يصعد نجم ملك من ملوك الأرض إلا وكما صعد هوى وانطفأ، ورغم أن حلم السيطرة على الأرض كلها راود ومازال يراود العديد من القادة العسكريين وأصحاب الديانات والملوك إلا أنه سيظل حلماً بعيد المنال غير قابل للتحقيق في أرض الواقع. لكن الكتاب المقدس يخبرنا أن هذا الحلم المستحيل سيتحقق قريباً في ملكوت ربنا يسوع المسيح، إذ نسمعه له المجد يقول بروح النبوة:
«إني أخبر من جهة قضاء الرب، قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك،
اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض مُلكاً لك، تحطمهم
بقضيب من حديد، مثل إناء خزَّاف تكسّرهم» (مز2: 7-9)
 هذا النص الكتابي يؤكد لنا أمرين: أولهما أن ملكوت المسيح مستمد من الله وليس من البشر، وثانيهما أن هذا الملكوت سيمتد ليشمل كل الأمم وكل أقاصي الأرض، في نهاية الزمان ستنضوي الأرض وكل سكانها تحت راية واحدة وملكوت واحد كما يؤكد لنا زكريا النبي: «ويكون الرب ملكاً على كل الأرض، في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده» (زك14: 9) لكن الكتاب يخبرنا في العهد الجديد بما هو أكثر من هذا، فملكوت ربنا لن يمتد ليشمل فقط هذه الأرض المادية وسكانها بل سيشمل أيضا العالم الروحي وسكانه:  
«لذلك رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع
كل ركبة ممن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف
كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب» (في2: 9-11)
هذا النص الكتابي يؤكد مرة أخرى أن الله هو الذي أعطى للمسيح هذا الملكوت لأنه أخلى نفسه وتنازل وأطاع حتى الموت موت الصليب، أي أنه ملكوت ذو شرعية إلهية وليست بشرية، ويؤكد هذا النص أيضاً على أن هذا الملكوت سيمتد ليشمل كل مَن هم في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، أي أن ملكوت ربنا يسوع المسيح سيمتد ليس فقط على الصعيد المادي ليشمل كل الأرض بل أيضاً سيمتد على الصعيد الروحي ليشمل كل الأرواح البارة في السماء من ملائكة وقديسين وكل الأرواح الشريرة في الجحيم من شياطين وأشرار!! ان كل النفوس ستخضع لمُلك ربنا سواء طوعاً أو كرهاً، وكل الألسنة ستعترف به رباً سواء بألحان الفرح والإبتهاج أو بصرخات الندم والإنكسار!! وللحديث بقية (يتبع)

السبت، 2 نوفمبر 2013

أحاديث من القلب

الاسم العجيب (73)
فخرى كرم
قلنا أن أي ملكوت على الأرض يحتاج إلى شرعية تسنده وتعطيه الصلابة والاستمرارية، وقلنا أن هناك نوعين من الشرعية تعرفهما ممالك الأرض، أولهما هو «شرعية القوة» فمنذ القديم كانت الأمم التي تمتلك القوة تمتلك شرعية فرض نفوذها على الأمم الأخرى، واليوم نريد أن نضيف النوع الثاني من الشرعية:
«شرعية الانتخاب»: وهذه النوعية لم تعرفها الشعوب إلا حديثاً بعدما أتعبتها الحروب والصراعات وقررت أن تكون أكثر تحضراً ورُقيَّاً، وهذه الشرعية مستمدة من رضا الشعوب واختيارهم وليس من السيطرة عليهم وقهرهم، وفي هذه النوعية من الشرعية يحتاج الملك أو الرئيس إلى رضا الناس عليه وانتخابهم له من وسط آخرين ليكون ملكاً عليهم أو رئيساً لهم.
والآن دعونا نسأل: من أي النوعين ستكون شرعية ملكوت ربنا يسوع المسيح عندما يعود في مجيئه الثاني؟ هل سيفرض ربنا ملكوته باستخدام القوة القاهرة؟ أم سينتظر محبة الناس له وانتخابهم له ملكاً؟!! والإجابة هي: لا هذا ولا ذاك!! فالحقيقة أن ملكوت ربنا يسوع المسيح سيختلف تماماً في شرعيته عن أي ملكوت آخر عرفته الأرض، إن شرعية ملكوت ربنا ستكون
الشرعية الإلهية
إن مالك الأرض الشرعي هو الله وحده ولا سواه، والكتاب يعلمنا أن للرب الأرض وملؤها والمسكونة وكل الساكنين فيها (مز 24: 1) ومن يريد أن يملك على الأرض مُلكاً شرعياً حقيقياً لابد أن يستمد ملكوته من رضا الله وسلطانه.
اختار الشعب القديم شاول بن قيس ملكاً عليهم بسبب قامته وهيئته الحسنة في عيونهم، إذاً كان ملكوت شاول ملكوتاً يستمد شرعيته من رضا الناس وانتخابهم، لكن هذا الملكوت للأسف لم يحظَ برضا الله وتأييده شأنه شأن كل ملكوت آخر يستمد شرعيته من الناس، ولكن عندما اختار الله داود ملكاً على شعبه لم يكن داود وقتها يتمتع بالقوة القاهرة ولا برضا الناس وتأييدهم لأنه لم يكن بعد معروفاً منهم، إذاً لم تكن شرعية ملكوت داود هي شرعية القوة ولا شرعية الانتخاب بل شرعية إلهية مؤيدة برضا الله وسلطانه!!

ولذلك وعد الله داود أن ملكوته سيستمر إلى الأبد من خلال أبنائه وأحفاده (2صم7: 16) وعندما أتى ملء الزمان جاء ربنا في الجسد من نسل داود الملك، وأُرسل جبرائيل الواقف أمام الله برسالة لمريم العذراء تقول «وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية» (لو1: 31-33) وكانت هذه هي أول إشارة في العهد الجديد تقول أن الله سيعطي لربنا يسوع المسيح مُلكاً أبدياً لا نهاية له، وأن ملكوت ربنا يتمتع بالشرعية الإلهية التي تجعله ملكوتاً أبدياً مؤيداً برضا الله وسلطانه، ثم توالت بعد ذلك الإشارات والإعلانات في العهد الجديد التي تؤكد على ملكوت ربنا يسوع المسيح وتزيده وضوحاً، وللحديث بقية (يتبع)   

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

أحاديث من القلب

الاسم العجيب (72)
فخرى كرم
قلنا أن لقب «ملك الملوك ورب الأرباب» هو آخر ألقاب ربنا يسوع المسيح في الكتاب المقدس لأنه آخر لقب سيُعلن للعالم في نهاية الزمان، وقلنا أن ربنا يحمل هذا اللقب الآن ولكن بشكل سري غير مُعلن للعالم، فمن ينظر لممالك العالم الآن يرى أن البشر هم الملوك والأرباب المسيطرون على الأحداث، ومَن أعطته كلمة الله بصيرة روحية أعمق يرى أن هذه الممالك كلها قد دُفعت للشيطان ووُضعت فيه، وأن الشيطان هو رئيس هذا العالم فعلياً وإله هذا الدهر روحياً، لكن المستقبل سيكشف للجميع عن مفاجأة لم يتوقعها أحد وسيزيح الستار عن حقيقة مجيدة لم يدركها أحد، وهي أن ملك كل هؤلاء الملوك ورب كل هؤلاء الأرباب كان دائماً هو ربنا يسوع المسيح!! وأنه كان كل الوقت المسيطر الفعلي على كل مجريات الأمور في هذا العالم والمتحكم في مساره، وأن إبليس نفسه وكل أجناده كانوا تحت سلطانه وملكوته كل الوقت، وأنه تبارك اسمه كان يقود من وراء الستار كل الأشخاص والأحداث إلى النهاية المرسومة من الله!! عندها ستجثو باسم يسوع كل ركبة ممَن في السماء (الملائكة والقديسين) ومَن على الأرض (البشر بمَن فيهم مِن الملوك والأرباب) ومَن تحت الأرض (إبليس ومملكته) ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (في 2: 10، 11) ونريد الآن أن نتحدث قليلاً عن مميزات ملكوت ربنا يسوع المسيح واختلافه جوهرياً عن كل ملكوت آخر عرفته الأرض، فملكوت ربنا يختلف تماماً في شرعيته وطبيعته واتساعه وامتداده.
 (1) شرعية الملكوت
كل ملكوت يحتاج إلى نوع ما من الشرعية تسنده وتعطيه الصلابة والسلطان، ولقد شهد عالمنا نوعين من الشرعية قامت عليهما الممالك وتأسست الدول:
 النوع الأول هو «شرعية القوة»: فمن يمتلك القوة يمتلك القدرة على بسط نفوذه وسلطانه على الشعوب، والغالبية العظمي من الممالك التي تأسست في أرضنا كانت تستمد شرعيتها من القوة، من يمتلك القوة يفرض سلطانه على الشعوب الأقل منه قوة، لذلك كانت هذه الممالك تزدهر في عصور قوتها وتزوي حين تنهار قوتها أو تظهر قوة أكبر منها، فرأينا مملكة أشور وعاصمتها نينوى تحكم العالم بالقوة والعنف ثم رأيناها تسقط أمام قوة الكلدانيين وعاصمتهم بابل وتسلم لهم السلطة على العالم، ثم رأينا مملكة بابل تنهار أمام قوة مادي وفارس وتلك بدورها سقطت أمام الإسكندر الأكبر القائد اليوناني الذي انكسر فجأة تاركاً الساحة لقوة المملكة الحديدية أي مملكة الرومان (دا 2: 31-45)  
 وحتى في عالمنا المعاصر نرى هذا النوع من الشرعية مازال سارياً ولو بشكل أكثر تحضراً!! فمن يمتلك القوة العسكرية والاقتصادية هو من يحكم العالم فعلياً، كلمته فاعلة ومشورته نافذة، إننا لا نزال نعيش بقانون الغابة وإن كنا نحاول أن نجعله أكثر تحضراً وقبولاً، ولذلك نرى صراع الشعوب على امتلاك السلاح بكل أشكاله الفتاكة، فالممالك القوية اليوم هي التي تمتلك فعلياً القدرة على الفتك بالآخرين!! وللحديث بقية (يتبع)


الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

أحاديث من القلب

الاسم العجيب (71)
فخرى كرم
بعدما تكلمنا عن بعض أسماء ربنا يسوع المسيح المذكورة في العهدين القديم والجديد أريد أن أختم معكم هذه السلسلة من المقالات بالحديث عن آخر أسماء الرب التي ذُكرت في سفر الرؤيا، الاسم الذي سيُعلن في يوم قريب أمام عيون كل البشر، الاسم الذي سيحمله ربنا في مجيئه الثاني إلى الأرض:
ملك الملوك ورب الأرباب
«ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أميناً
وصادقاً وبالعدل يحكم ويحارب، وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة
وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو....وله على ثوبه وعلى فخذه
اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب» (رؤ19: 11-16)
إن الذي أتى إلى عالمنا في مجيئه الأول يحمل اسم «العبد» لأنه أتى لكي يصنع مشيئة الذي أرسله، والذي سار في أرضنا يحمل لقب «حمل الله» أو «الخروف» لأنه كان مزمعاً أن يقدم حياته ذبيحة إثم لأجلنا، هذا الشخص المبارك عينه يجلس الآن عن يمين العظمة في الأعالي يحمل اسماً جديداً لا يعرفه أحد إلا هو، ولكن عندما يعود ليُظهر نفسه للعالم في مجيئه الثاني سيكون هذا الاسم الجديد مكتوباً على ثوبه وعلى فخذه لكي يراه ويعرفه الكل، هذا الاسم هو «ملك الملوك ورب الأرباب»!!
إن ربنا المعبود يحمل هذا الاسم منذ أن أقامه الآب من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء (أف1: 20-22) إن العالم يحكمه الآن مجموعة من الرياسات والسلاطين والقوى السياسية والعسكرية، وإذا كان ربنا جالساً الآن فوق كل هؤلاء الملوك والأرباب التي تحكم الأرض إذاً فهو «ملك الملوك ورب الأرباب»!! إن ربنا متسلط في مملكة الناس الآن من خلال تسلطه على القوى المتحكمة في حياة البشر، ولكن هذا التسلط غير مُعلن للناس بل هو يعمل من خلف الستار ومن خلال القوى المنظورة، ولذلك فاسم «ملك الملوك ورب الأرباب» غير مُعلن في الزمن الحاضر بين البشر ولا يعرف أحد معناه ومدى قوته وسلطانه إلا ربنا نفسه، حتى أبناء الله أنفسهم غير مُعلن لهم مدى عظمة وعمق هذا الاسم في الوقت الحاضر، ولذلك نراهم يخافون ويضطربون ويحزنون كثيراً من جراء الأحداث والاضطرابات السياسية والاجتماعية التي تدور حولهم، إننا لا نفهم حتى الآن معنى أن يكون ربنا جالساً فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة، لأننا لو فهمنا هذا الحق لهدأت نفوسنا واستقرت!!

لكن الكتاب يعلمنا أنه في وقت قريب سيأتي ربنا مرة أخرى إلى أرضنا، وعندما تُفتح له السماء سيراه العالم أجمع وهو جالس على فرس أبيض وتتبعه كل جند السماء، وسيرى العالم هذا الاسم معلناً بكل وضوح «ملك الملوك ورب الأرباب»!! ولعله مناسباً في هذا الوقت التي تتصارع فيه كل القوى حولنا على السلطة والنفوذ أن نتأمل قليلاً في عظمة ومجد هذا الملك العجيب والفريد: ربنا يسوع المسيح!! (يتبع)       

الأحد، 4 أغسطس 2013

أحاديث من القلب

الاسم العجيب (70)
فخرى كرم
قلنا أن أرفع وأعظم قامة يصل إليها العبد هي أن يخدم سيده عن حب وليس فقط عن التزام أو اضطرار، فالعبد الذي يحب سيده يبقى في بيته ويخدمه إلى الأبد، والعبد الذي يحب سيده لا يكتفي بأن يكون عبداً بطالاً يفعل ما يُأمر به بل يتحول إلى عبد «شريك» يشارك سيده أفكاره ومشاعره وقد يفعل أشياء كثيرة يريدها السيد حتى دون أن يطلبها منه!!
ولقد أعطينا أمثلة للعبد الشريك من حياة إبراهيم وموسى، ويعوزنا الوقت لو تكلمنا عن كل عبيد الرب المذكورين في الكتاب لكننا نريد أن نتوقف عند حياة ربنا يسوع المسيح لنرى كيف كان أعظم عبد شريك رأته البشرية:
«فأجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن
أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل...لأن الآب
يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله» (يو5: 19، 20)
الرب هنا يقرر أن العلاقة بينه وبين الآب هي علاقة الحب التي تجعل الآب يُري الابن جميع ما يعمله، والابن لا ينتظر هنا أوامر لكنه يبادر بعمل ما ينظر الآب يعمل، إنه «شريك» للآب في عمل مشيئته على الأرض، إن الابن المبارك لم يأتِ إلى الأرض مُحمَّلاً بأوامر لينفذها لكنه أتى ممتلئاً بمشيئة ليصنعها، والفرق بين الحالتين شاسع، فالأوامر تتعلق بالتفاصيل والعبد الذي ينفذ الأوامر ينتهي دوره عند تنفيذ التفاصيل المحددة ولا يستطيع أن يضيف من عنده شيئاً، أما العبد الشريك الممتلئ بالمشيئة فالآب لا يعطيه أوامر محددة بالتفاصيل بل يتركه يعمل ما يراه واثقاً أنه في النهاية سيعمل ما يرضيه لأنه ممتلئ بمشيئته، أو كما قال الرب أن الآب لا يدين أحداً بل أعطى الدينونة كلها للابن وأيضاً أعطى للابن أن يُحيي من يشاء(يو5: 19-23) فالابن لا يدين الناس بحسب أوامر من الآب بل بحسب رؤيته الشخصية وهذه الرؤية متفقة تماماً مع رؤية الآب، والابن لا يُحيي أحداً بحسب أوامر من الآب بل هو يُحيي «مَن يشاء» ومشيئته هذه بلا شك متوافقة تماماً مع مشيئة الآب، هذا هو العبد الشريك في أكمل وأجمل حالاته على مدار التاريخ كله!!

كما أظهر الرب لموسى على الجبل نموذجاً للهيكل وطلب منه أن ينزل يصنعه تماماً كما رآه، هكذا كان الأمر مع ربنا يسوع المسيح مع الفارق الشاسع في القياس، لقد أراه الآب ما يريد أن يصنعه في حياة البشر وأظهر له المحبة الكامنة في قلبه تجاه بني آدم ثم طلب منه أن ينزل يتمم هذه المشيئة تماماً كما رآها في قلب الآب، ولقد امتلأ الابن بهذه المشيئة وأتى إلى العالم ولسان حاله «هانذا أجئ لأفعل مشيئتك يا الله» (عب 10: 9) وفي كل يوم من حياته كان يختلي بالآب وينظر إلى قلبه ليعرف ما يريد الآب أن يعمله، والآب كان يُظهر له مشيئته ولا يُخفي عنه شيئاً، ثم يخرج إلى العالم ليصنع مشيئة الآب ويحوِّلها إلى واقع ملموس في حياة البشر، من خلال حياته وسلوكه وكلماته بل من خلال عرقه ودموعه ودمائه استطاع أن ينقل لنا محبة الآب وخلاصه، له كل المجد إلى الأبد!! (يتبع)  

السبت، 6 يوليو 2013

أحاديث من القلب

الاسم العجيب (69)
فخرى كرم
قلنا أن كمال العبودية هو أن يخدم العبد سيده عن محبة وليس فقط عن التزام ومسئولية، وبحسب شريعة العبد العبراني في العهد القديم كان العبد الذي يحب سيده يبقى في بيته إلى الأبد، ورأينا أن هذه الصفة اكتملت تماماً في حياة ربنا يسوع المسيح الذي لم تكن شريعة الله بالنسبة له التزاماً ومسئولية فحسب بل نُسجت في وسط أحشائه، واليوم نضيف شاهداً آخر لتأكيد الفكرة
«قال لهم يسوع: طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو4: 34)
في هذا الشاهد يقول ربنا أن عمل مشيئة الآب الذي أرسله هي بمثابة تناول الطعام بالنسبة له، فكما نشتهي نحن تناول الطعام عندما نكون جياعاً هكذا كان سيدنا «يشتهي» عمل مشيئة الله، وكما نجتهد بحثاً عن طعامنا ونبذل في سبيله العرق والمال هكذا كان سيدنا يتعب ويسافر ساعات طويلة لكي يصنع مشيئة الآب ويتممها، وكما نشعر بالراحة والاكتفاء عندما تناول الطعام هكذا كان سيدنا لا يشعر بالراحة والاكتفاء إلا عندما يصنع مشيئة الآب!! لم يكن سيدنا عبداً بطّالاً يفعل ما يُأمر به فقط بل كان عبداً محباً للآب يشاركه فعل مشيئته بكل سرور وفرح!!
العبد الشريك والعبد البطّال
«متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون» (لو17: 10)
يعلمنا الرب في هذا الشاهد أن العبد متى فعل كل ما يُطلب منه فهو عبد بطّال، لأنه فعل ما يجب عليه أن يفعله ولم يضف جديداً يستحق عليه الثناء، ولكننا عندما ننظر لحياة ربنا المبارك لا نجد عبداً بطّالاً أبداً بل عبداً أدخل السرور لقلب الآب واستحق كل الثناء والمديح، وذلك لأن محبة العبد لسيده تجعله لا يكتفي بأن يفعل كل ما يُطلب منه بل تجعله يتقدم ويشارك سيده مشاعره واهتماماته وقد تجعله يتقدم ويبادر بأعمال لم تُطلب منه لكنه يراها في قلب سيده، وهذا ما يمكننا أن نسميه «العبد الشريك»!!
ولو نظرنا إلى كل التاريخ المقدس لوجدنا أمثلة عديدة للعبيد «الشركاء» ولو بدرجات متفاوتة، عندما يخرج إبراهيم من أرضه وعشيرته ويذهب إلى أرض الموعد فهو مجرد عبد بطّال لأن فعل ما أمره به الرب، ولكن عندما نراه يأخذ عبيده ولدان بيته ويذهب ليحرر لوط من الأسر فهو هنا يفعل شيئاً لم يُأمر به لكنه رأي في قلب الله أن يعطي للوط فرصة أخرى لعله يُحسن الاختيار ويُصلح ما أفسده في الاختيار الأول،  وعندما نجده يقف أمام العلي يشفع في سدوم وعمورة لكي يخلِّص ابن أخيه فهو هنا أيضاً لا يفعل ما يُأمر به بل هو هنا «يشارك» قلب الله لأنه رأي في قلب الله خلاصاً للوط وإن كان مستتراً خلف التهديد بحرق سدوم وعمورة!! لم يكن إبراهيم إذاً عبداً بطّالاً بل عبداً شريكاً أحب إلهه من كل قلبه!!


عندما يتقدم موسى ليُخرج الشعب من مصر فهو هنا عبد بطال يفعل ما يُأمر به، ولكنه عندما يقف أمام غضب الله ليشفع للشعب ويقدم نفسه للموت معهم فهو هنا لا يفعل ما يُطلب منه بل يبادر بطلب فرصة أخرى للشعب يراها في قلب الله مستترة خلف تهديده بإبادتهم!! فموسى لم يكن عبداً بطالاً بل شريكاً في رحلة خلاص الشعب ودخوله لأرض الموعد!! وللحديث بقية(يتبع)

السبت، 1 يونيو 2013

الاسم العجيب (68)
فخرى كرم
قلنا أن من صفات العبد أنه يصنع إرادة سيده وليس إرادته الخاصة وأنه يعمل بدون انتظار لأجر، ورأينا كيف انطبقت هاتان الصفتان على حياة ربنا يسوع المسيح تمام الانطباق، وفي المرة السابقة تكلمنا عن أرقى صفات العبد والتي تجعل منه عبداً أبدياً وليس مؤقتاً ألا وهي المحبة للسيد، فالعبد إذا أحب سيده يبقى في بيته إلى الأبد ويخدم ليس بدافع الالتزام فقط بل بدافع المحبة القلبية، ونريد اليوم أن نرى كيف تحققت هذه الصفة في حياة ربنا له المجد

«أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت، وشريعتك في وسط أحشائي»(مز40: 8)

 مشيئة الله وشريعته يمثلان التزاماً بالنسبة للبشر جميعاً، وكلنا يشعر بمدى ثقل هذا الالتزام، الخطية التي ملكت في أعماقنا جعلت حفظ شريعة الله وعمل مشيئته عبئاً ثقيلاً على كاهلنا، الإنسان يشعر أن ما يريده مضاد لما يريده الله وأن مشيئته تسير عكس مشيئة الله، في جنة عدن وضع إبليس في ذهن وقلب آدم وحواء أن وصية الله تتعارض مع مصلحتهما وأن مشيئته تعالى لا تعمل لخيرهما، ولقد توارثنا جميعاً كأبناء آدم هذا الانطباع الخاطئ وصدقناه، وصار كل واحد فينا يُولد وبداخله نفور من الخضوع لوصايا الله وميل غريزي لكسرها!!
وإذا كانت الغالبية العظمى من البشر يكسرون وصية الله وشريعته في كل يوم، وإذا كانوا يفعلون هذا بتلقائية شديدة دون تردد أو خوف، فإن التاريخ شهد ومازال يشهد أناس أرادوا أن يصنعوا إرادة الله رغبة منهم للوصول إلى رضاه وهرباً من عقابه، هؤلاء عانوا كثيراً من مقاومة رغباتهم الداخلية وصارعوا طويلاً ضد ميولهم الذاتية، هؤلاء مَن اصطلحنا على تسميتهم «الأتقياء» الذين هم شعب الله في كل زمان ومكان، ورغم أن طبيعتهم الساقطة والخطية الساكنة في أعماقهم كانت تنتصر عليهم في أحيان كثيرة وتجعلهم يخطئون في أفكارهم وأفعالهم إلا أنهم على أي حال كانوا أفضل مَن عاش على أرضنا!! هؤلاء هم «عبيد الله» الذين حاولوا بكل طاقتهم أن يفعلوا إرادة الله وليس إرادتهم الخاصة، والبشرية كلها مدينة لعبيد الله هؤلاء بكل الخير الذي صنعه الله على أيديهم ومن خلالهم.
ولكن لا أحد من هؤلاء العبيد يستطيع أن ينكر أنه عانى كثيراً لكي يصنع مشيئة الله، جميعهم صارع مع رغبات خاطئة ساكنة في أعماقه، جميعهم باتوا ليالٍ ظلماء وزرفوا دموعاً سخينة في صراعهم لتتميم شريعة الله، فأكثر الناس تقوى يعاني كثيراً لكي يظل خاضعاً لمشيئة الله ووصاياه!!

ولكننا عندما نرفع أعيننا عن كل عبيد الله ونلتفت إلى العبد الكامل ربنا يسوع المسيح نكتشف شيئاً فريداً!! إنه لم يكن يعاني لكي يعمل مشيئة الله بكل كان هذا سروره!! شريعة الله لم تكن ثقلاً على ذهنه أو التزاماً على ضميره بل كانت منسوجة في أحشائه، أي في مركز عواطفه ومحبته، لقد أطاع يسوع مشيئة الآب وتممها لأنه يحب الآب ويجد سروره في رضاه، هناك فرقاً جوهرياً بين عبودية يسوع لله وبين كل عبيد الله على مدار التاريخ، يسوع لم يُطع الله خوفاً أو التزاماً أو اضطراراً بل فقط حباً قلبياً خالصاً، له كل المجد!! وللحديث بقية (يتبع)   

السبت، 4 مايو 2013


ساعة واحدة
فخرى كرم
«أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟! اسهروا وصلوا لئلا
تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف»(مت 26: 40)
ساعة واحدة كانت تفصل بين الرب وآلام الصليب، ساعة واحدة كانت تفصل «حَمَل الله» عن مواجهة الذئاب الجائعة وسكين الذبح، ولقد قرر ربنا أن يقضي هذه الساعة الواحدة في الشركة مع الآب، كان جسده ضعيفاً للغاية ويحتاج للراحة لكن روحه النشيطة قررت أن تقضي هذه الساعة في الصلاة، كان ربنا يعلم أن ساعة واحدة في الصلاة تصنع فارقاً كبيراً في الساعات التي تليها، ساعة واحدة يقضيها في النور تعينه لمواجهة ساعات مملوءة بالظلمات الكثيفة، ساعة واحدة في شركة مع الحق تسنده في مواجهة سيول من الأكاذيب ستملأ الساعات التالية، ساعة واحدة يسكب فيها مشاعره الحزينة أمام الآب سترسل له ملائكة من السماء لتقويه.
ولأن الرب يحب تلاميذه أعطاهم شرف أن يشاركوه هذه الساعة الفارقة، طلب منهم أن يسهروا ويصلوا معه، كان سيدهم يعلم أنهم إذا قضوا هذه الساعة في الصلاة فسوف تختلف تماماً ردود أفعالهم تجاه الأحداث التالية، وكان يعلم أيضاً أن عدم صلاتهم في هذه الساعة سيعطي فرصة مواتية للعدو لكي يجرِّبهم، عدم استعدادهم سيتيح للعدو أن يقذفهم بسهام الشك والخوف والحزن، وهذه السهام ستخترقهم وتصنع جراحاً في أعماقهم لأنهم لم يسهروا هذه الساعة الواحدة ويصلوا!!
ولكن على العكس من تصرف الرب استسلم التلاميذ لضعف الجسد وناموا!! ربما كانت أرواحهم نشيطة وتريد أن ترافق الرب في صلاته ولكن أجسادهم كانت تريد النوم والراحة، وللأسف نجدهم ينحازون إلى رغبة الجسد ويستسلمون للنوم ويتركون الرب يصارع وحده في خلوته مع الآب، لم يكن أحد منهم يتصور أن هذه الساعة الواحدة يمكنها أن تصنع كل هذا الفارق، لم يتصور أحد من التلاميذ أنه لو سهر وصلَّى ساعة واحدة لتفادى أيام طويلة من الخوف والحزن والاختباء!! وبطرس نفسه لم يكن يتصور أنه لو سهر هذه الساعة الواحدة وصلَّى لتجنَّب ساعات طويلة من الانكسار والبكاء المرير!!
ولكن دعونا لا نلقي اللوم على التلاميذ لأننا لسنا أفضل منهم، فمن منا اليوم يعتقد أن ساعة واحدة نقضيها في المقادس في الصباح الباكر تصنع فارقاً كبيراً في كل ساعات يومنا؟! من منا يسهر ويصلي في جوف الليل وسكونه ولا يتجاوب مع ضعف الجسد ورغبته في النوم والراحة؟! هل نصدق أن الكثير من التجارب التي صادفتنا كان من الممكن تجنبها إذا صرفنا ساعة واحدة في الصلاة؟! هل فهمنا أن الساعات الطويلة التي نقضيها في الخوف والحزن والاكتئاب هي بسبب أننا أهملنا ساعة واحدة في الشركة مع الآب؟!
دعونا نأخذ نصيحة الرب لتلاميذه في تلك الليلة الحزينة بمأخذ الجد، دعونا نعتبرها موجَّهة لنا بالتحديد في أيامنا الصعبة التي نحياها الآن في بلادنا، إننا لا نعلم الآتي علينا في الساعات القادمة وفي كل يوم تفاجئنا أحداث مؤلمة ومحزنة، ولأننا غير مستعدين نتعرض لتجارب كثيرة من خوف وحيرة وعدم إيمان، هل سنظل مستسلمين لضعف الجسد ونومه أم ستنهض أرواحنا نشيطة وتسهر الليل في الصلاة والتضرع؟! هل سنتعلم من سيدنا أن نتقدم إلى عرش النعمة ونخرُّ على وجوهنا ونصلي؟! ليتنا نتعلم قبل فوات الوقت وضياع الفرص!! وكل عام وأنتم بخير. 

الخميس، 4 أبريل 2013


الاسم العجيب (67)
فخرى كرم
عندما تجسد ابن الله وأتى إلى أرضنا رأيناه يعيش حياة العبودية لله الآب بشكل كامل ومطلق، لكي يعطينا نموذجاً حياً ومثالاً نحتذي به إن أردنا أن نعيش حياة ترضي الله وتتمم مشيئته، وعرفنا كيف انطبقت على شخصه الكريم صفتان من صفات العبد: فوجدناه يحيا لا ليعمل مشيئته بل مشيئة الآب الذي أرسله، وأيضاً وجدناه يعمل ويخدم مجاناً دون انتظار لمجازاة أو مقابل، واليوم نضيف من صفات العبد أيضاً:
(ثالثاً) العبد الكامل يخدم سيده بدافع المحبة
«إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم وفي السابعة
يخرج حراً مجاناً، ولكن إن قال العبد أحب سيدي وامرأتي
وأولادي لا أخرج حراً...فيخدمه إلى الأبد»(خر21: 2-6)
عندما أعطى الله لموسى أحكام الشريعة على جبل سيناء كانت أول الأحكام هي ما يخص العبد العبراني، فقد كان شائعاً في تلك الأيام أن يعرض الرجل نفسه للبيع عبداً بسبب فقره وحاجته للمال، ولقد وضع الله الأحكام التي تقنن هذه الحالات لكي لا يستغل الإنسان حاجة أخيه وفقره ويسود الظلم في المجتمع، ومن هذه الأحكام نفهم أن العبودية نوعان:
(1) العبودية المؤقتة: وهي الغالبية العظمى في حالات العبودية التي يكون الدافع فيها هو الاحتياج للمال، وأقصى مدة لهذه العبودية هو ست سنوات يخرج بعدها العبد حراً مجاناً، ما لم تحدث ظروف طارئة (منصوص عليها في أحكام الشريعة) قد تعجِّل بخروج العبد حراً قبل انقضاء مدة السنوات الست.
في هذه النوعية من العبودية يكون الدافع الأساسي لخدمة العبد هو تسديده للدين الموجود في عنقه، ليس بالضرورة أن تكون هناك عاطفة محبة تجاه السيد الذي يخدمه، والسيد أيضاً لا يعنيه إن كان العبد يحبه أم لا بل كل ما يعنيه أن ينفذ مشيئته بكل جد واجتهاد، بل كثيراً ما قرأنا في التاريخ عن عبيد قتلوا سادتهم أو تآمروا ضدهم مثل يربعام بن نباط عبد سليمان.
إذاً العبودية المؤقتة ينطبق عليها الصفتان الأولى والثانية من صفات العبد ولا تنطبق عليها الصفة الثالثة، العبد المؤقت يعمل إرادة سيده ويعمل مجاناً دون انتظار لمقابل لكنه ليس بالضرورة يحب سيده، ولذلك نقول أن هذه العبودية لا تقدم لنا صورة لعبودية الرب يسوع لله الآب، فالرب لم يكن عبداً مؤقتاً ولم يعمل قط لتسديد ديناً!!
(2) العبودية الأبدية: في حالة ارتباط العبد بسيده برباط من المحبة والألفة، وإذا وجد من الخير في بيت سيده ما لن يجده إذا خرج حراً، وإذا أعطاه سيده زوجة وأنجب منها أولاداً، وإذا أحب زوجته وأولاده الباقين في بيت سيده ولم يستطع الابتعاد عنهم، عندئذ قد يختار العبد أن يبقى عبداً إلى الأبد في بيت سيده ولا يخرج حراً، ويثقب سيده أذنه في إشارة لكونه لن يستمع لسيد آخر طوال حياته.
هذه العبودية الأبدية هي عبودية اختيارية دافعها هو المحبة فقط، وهي أرقي علاقة يمكن أن تربط بين سيد وعبد، لأن العبد في هذه الحالة يجمع بين المحبة التي هي صفة الأبناء وبين العمل الجاد الشاق الذي هو صفة العبيد، وقد رأينا من هذه النوعية أليعازر الدمشقي مالك بيت إبراهيم والمتسلط على كل ما كان له، كيف كان أميناً لسيده وحريصاً على تتميم مشيئته، ولقد ظهر جلياً في حادثة زواج اسحق من رفقة كيف أن أليعازر أحب إبراهيم سيده محبة شديدة قلما نجدها في قلوب الأبناء تجاه والديهم!!
هذه النوعية من العبودية تعطينا صورة مُصغَّرة باهتة عن عبودية ربنا يسوع المسيح لله الآب، الذي كان دافعها الأول هو محبته الكاملة للآب ورغبته في صنع مشيئته، لقد جمع في شخصه الكريم بين محبة الابن وخدمة العبد، بين الوجود في المقادس كابن وبين العمل الشاق في الحقل كعبد، وقد أعطاه الآب الكنيسة فأحبها وأسلم نفسه لأجلها، ولقد اختار سيدنا أن يأخذ دور العبد للأبد بلا توقف، فهو حتى الآن مازال يتمم مشيئة الآب ويخدمنا و يشفع لأجلنا من مكانه عن يمين العظمة في الأعالي، مازال العبد الكامل يعمل حتى الآن وسيظل يعمل من خلال عبيده الأمناء على الأرض حتى تكمل مشيئة الله في الأرض بصورة تامة ونهائية، وهذا ما سنحاول أن نتأمله في المرات القادمة (يتبع)    


الأحد، 10 مارس 2013



الاسم العجيب (66)
فخرى كرم
قلنا أن أول صفات العبد هي أنه لا يعمل مشيئته الخاصة بل مشيئة سيده، ورأينا كيف انطبقت هذه الصفة تمام الانطباق على حياة ربنا له المجد، الذي عاش يعمل مشيئة الآب الذي أرسله ويتمم عمله، وكان شعاره دائماً «لا يكن ما أريد أنا بل ما تريد أنت» وقلنا أيضاً أن ثاني صفات العبد أنه يقدم كل ما لديه مجاناً لأنه لا يعمل بالأجرة بل يعمل لأنه مُشترى بثمن، ونريد الآن أن نرى كيف تحققت هذه الصفة في حياة ربنا يسوع المسيح:
قدَّم كل حياته..بلا مقابل!!
«لأجلهم أُقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو17: 19)
عندما أتى ربنا إلى الأرض وجدناه يقدم كل حياته لتتميم مشيئة الآب الذي أرسله، لم يبخل بشيء ولم يحتفظ لنفسه بشيء، كل ساعات يومه منذ الصباح الباكر كانت لخدمة الناس وتسديد احتياجاتهم المادية والروحية، كل طاقته كانت تُنفق في التجوال وصُنع الخير وشفاء جميع المتسلط عليهم إبليس، كل مشاعره كانت تتدفق لحساب النفوس المسكينة التي وضعها الآب بين يديه، حتى قال لهم يوماً «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» لقد وضع نفسه وكرَّس ذاته لأجلنا لنكون نحن أيضاً مقدسين في الحق.
 لم نراه يوماً يؤثر راحته أو يطلب شيئاً لنفسه، لم نراه يضع مالاً في جيبه أو يختزن متاعاً لمستقبله، عاش بالكفاف وعلَّم تلاميذه أن يطلبوا الكفاف في صلاتهم، ولعل أبلغ تعبير عن حياته المبذولة هو كسر الخبز الذي صنعه أمام تلاميذه في الليلة الأخيرة معهم، لقد كسر الخبز وأعطاهم ليأكلوه ثم قال لهم أن هذا هو جسده المكسور لأجلهم، وأعطاهم الكأس لكي يشربوا منها كلهم قائلاً أن هذا هو دمه المسفوك لأجلهم، لقد مزَّق جسده وسفك دمه وأعطانا لكي نشبع ونرتوي، ماذا تبقَّى له إذاً؟ لا شيء، لقد قدم لنا كل ما يملك: جسده ودمه!!
ودعونا الآن نسأل: ماذا كان المقابل لكل هذا العطاء؟ والإجابة هي«لا شيء»!! فالإنسان يعرف أن يأخذ لكنه لا يعرف أو لا يستطيع أن يقدم المقابل، فأمام كل محبة ربنا للإنسان لم يأخذ إلا الغدر والخيانة، لقد قدَّم حياته للناس فقدموا له الموت!! لقد رفع شأنهم وأعاد لهم الكرامة فاحتقروه وبصقوا في وجهه!! اقترب منهم واتخذهم أحباء فهربوا منه وأنكروا أنهم يعرفوه!! أراد أن يكتب أسماءهم في سفر الحياة فوضعوا اسمه ليُحصى بين الأثمة!!
«إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا، فوزنوا أجرتي
ثلاثين من الفضة، فقال لي الرب ألقها إلى الفخاري»(زك11: 12، 13)
في هذه النبوة نجد الله يسبق ويخبرنا قبل مئات السنين بما سيحدث في ملء الزمان، يخبرنا عن الراعي الصالح الذي طلب منه الآب أن يرعى غنمه الذليلة التي أذلَّها رعاة الشعب الكذبة، ويخبرنا أن هذا الراعي سيرعى الشعب بالنعمة وروابط المحبة، ويخبرنا أن بعد هذه الخدمة ستكون الأجرة مبلغاً زهيداً هو ثلاثين من الفضة، وأن حتى هذه الأجرة لن يضعها في جيبه بل سيذهب ليعطيها للفخاري في بيت الرب، أي أن هذه الرعاية الكاملة والمحبة الباذلة كانت بلا ثمن، لقد عاش يخدم الشعب بلا مقابل، وهذا بالتحديد هو سلوك العبد الكامل الذي لا يعمل لأجل أجرة بل فقط لأجل رضا سيده، لقد كانت أجرة يسوع الوحيدة هي أن مسرَّة الآب بيده تنجح!!
مَن مِن البشر يستطيع أن يقدم كل ما لديه مجاناً؟! مَن منا يستطيع أن يظل يعطي دونما مقابل؟! مَن يستطيع أن يستمر يحب حين لا يحصد في المقابل إلا الغدر والخيانة؟! والإجابة هي بالتأكيد «لا أحد»، لأن الإنسان في طبيعته «أجير» وليس «عبد»، ليتنا نقترب من سيدنا ونتعلم منه كيف نعيش صفات العبد في حياتنا وخدمتنا!! وللحديث بقية (يتبع)