السبت، 30 يوليو 2016

أحاديث من القلب

الأوقات والأزمنة (11)
بقلم : فخرى كرم
«أهو وقت ٌلأخذ الفضة» ؟! (2مل 5: 26)
كلمات أليشع رجل الله لجيحزي تكشف لنا أهمية تمييز الوقت الذي نعيش فيه، لم يكن خطأ الغلام يكمن في طبيعة الأشياء التي أخذها بل في توقيتها، الفضة والثياب أمور مشروعة ونعمان قدَّمها عن طيب خاطر، وجيحزي متيقن في ضميره أن سيده يستحق أكثر منها بكثير، ولكن يبقى أن توقيت أخذها كان خطأ!!
 هذا يدفعنا لمراجعة طبيعة الزمن الذي عاشه أليشع، كانت الصبغة العامة التي تصبغ خدمة أليشع هي صبغة النعمة المتفاضلة، النعمة التي تعطي كل شيء بسخاء ولا تعيِّر، النعمة التي تفيض على الكل بغنى وبلا مقابل، أليشع الذي يعني اسمه «الرب يخلِّص» هو أقرب رجال العهد القديم في خدمته لخدمة الرب يسوع نفسه، وحتى المعجزات التي جرت على يديه كانت الأكثر شبهاً بمعجزات الرب يسوع.
بعد خدمة إيليا النارية أتت خدمة أليشع كنهر مياه منعشة، وبعد روح الغضب والقضاء التي تجسدت في إيليا كان ينبغي أن يجسد أليشع روح المحبة والرحمة، كان مطلوباً من إيليا أن يهدم أوضاعاً دينية فاسدة بينما كان المطلوب من أليشع أن يبني أوضاعاً جديدة صالحة، ولأن البناء يحتاج إلى مجهود مضاعف أكثر من الهدم لذلك طلب أليشع نصيب اثنين من روح إيليا.
عندما أتى نعمان إلى أليشع كان هدف الرب أن يعلن لهذا الإنسان عن إله النعمة الذي يُحسن حتى للأعداء، الإله الشافي والقادر وحده أن يعيد لحمه الميت إلى لحم صبي صغير، أنه إله القيامة والحياة، وهو يعمل هذا بنعمة خالصة ومجانية بلا مقابل، ولذلك رفض أليشع أن يأخذ أي شيء من هدايا نعمان رغم أن الشفاء الذي أخذه نعمان لا يُقدَّر بثمن، لكن جيحزي فشل في أن يميز هذا الزمان وطبيعة خدمة أليشع، ولما حسبها بمنطق الأخذ والعطاء وجد أنه من الطبيعي أن يركض خلف نعمان ويأخذ منه شيئاً، ولم يكن يعلم أنه بفعلته هذه سيفسد صورة النعمة المجانية التي أرادها الله أن تصل لنعمان وللشعب الأرامي.
عندما عاد جيحزي ليقف أمام سيده لم يعاتبه أليشع على كذبه ولا على رغبته في الامتلاك بل عاتبه على عدم تمييزه للوقت والخدمة التي يقوم بها، فالخطية ليست فقط السعي وراء أشياء خاطئة ولكنها قد تكون أيضاً السعي وراء أشياء بريئة ولكن في التوقيت الخطأ!!
ولهذا رتَّب الله موقفاً آخر لكي يعلن عن نعمته تجاه الأراميين بعد موقف نعمان، عندما أرسل ملك أرام خيلاً ومركبات وجيشاً ثقيلاً إلى دوثان ليلقوا القبض على أليشع ليلاً، فطلب أليشع أن يضربهم الرب بالعمى ثم اقتادهم إلى السامرة وعندما أعاد الرب إليهم البصر وجدوا أنفسهم محاصرين وسط السامرة حيث يسهل جداً القضاء عليهم، ووجدوا ملك اسرائيل يطلب الإذن من أليشع أن يبدأ الضرب، ولكن لدهشة الجميع رفض أليشع أن يقع بأعدائه أي ضرر بل طلب أن يصنعوا لهم وليمة عظيمة، وبعدما أكلوا وشربوا أطلقهم بسلام إلى سيدهم!! كانت هذه هي الفرصة الثانية التي أعدها الله ليرسل برسالة النعمة لملك أرام، وإن كانت صورة النعمة لم تصل كاملة لملك أرام في شفاء نعمان بسبب خطأ جيحزي فقد وصلت هذه المرة كاملة غير منقوصة، وكانت النتيجة كما يقول الكتاب أن جيوش أرام لم تعد تدخل اسرائيل (2مل 6: 8-23)

ما أجمل أن يكون هناك رجل لله يميز الأوقات والأزمنة!! لكن في المقابل ما أخطر ألا نميز الوقت والزمن الذي نعيش فيه، فقد نخطئ كثيراً ونحصد نتائج وخيمة ومريرة، وللحديث بقية (يتبع)

الثلاثاء، 5 يوليو 2016

أحاديث من القلب

الأوقات والأزمنة (10)
بقلم : فخرى كرم
في (حزقيال 16) قسَّم الرب تاريخ الشعب القديم إلى عدة مراحل زمنية متتابعة، رأينا منهم «زمن الميلاد» تحت وطأة الاضطهاد في أرض مصر، الاضطهاد الذي كان يقصد فناء الشعب لولا أن الرب أمر بحياتهم رغم الاضطهاد (ع 1-7) ثم بعد أربعمائة سنة في مصر أخذ الرب شعبه في «زمن الحب» حين أخرجهم بذراع رفيعة وأدخلهم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً وكساهم من هيبته فتعظمت المملكة جداً وسط كل ممالك الأرض، وكانت قمة هذه المرحلة في عصر داود وسليمان عندما أراح الرب المملكة من كل جهة (ع8-14)                                    
  لكن للأسف يأتي بعد هذا زمن ثالث هو «زمن الكبرياء والخيانة» (ع15-34) عندما بدأ الشعب يشعر بالزهو والكبرياء بسبب المجد الذي منحه الرب اياه وبسبب الاسم العظيم الذي صار لهم، والعجيب أن كل ما كانوا يفتخرون به كان عطية مجانية من إلههم لا يستحقونها!! وبدأوا يتعاملون مع الشعوب المحيطة بهم ويفتحون أبوابهم لكل آلهة الأمم وشرائعهم وأساليب حياتهم النجسة، دخلهم الإعجاب بالحضارات والثقافات المحيطة بهم وفتحوا قلوبهم وأذهانهم لها، داسوا شرائع ونواميس إلههم وأرادوا أن ينسوا احسانه معهم ويكسروا نيره عن أعناقهم، وأحبوا أن يصطبغوا بصبغة الشعوب الأخرى.
والرب يشرح لنا أن النسيان هو سبب الخيانة، عندما يخاطبهم قائلاً «وفي كل رجاساتك وزناكِ لم تذكري أيام صباكِ إذ كنتِ عريانة وعارية وكنتِ مدوسة بدمك» الانسان يميل دائماً أن ينسى الإحسان، وهذا النسيان متعمد ومقصود وبكامل ارادة الانسان!! لأن الانسان لا يريد أن يشعر بالمديونية للرب، لا يحب أن يعيش وفي عنقه دين ينبغي أن يوفيه، يريد أن يتحرر من أي التزام أدبي أو أخلاقي، ورغم ان الإنسان لا ينسى الإساءة أبداً إلا أنه ينسى الإحسان سريعاً جداً!! ولعل داود كان يشعر بهذه الحقيقة عندما خاطب نفسه قائلاً «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته» (مز103: 2) ليت الرب يحفظنا من هذا الداء الموجود في قلب كل انسان، داء نسيان إحسانات الرب والتفاخر بما لا نملكه ولا نستحقه!!
ولذلك كان ينبغي ان يجتاز الشعب فترة زمنية رابعة في تاريخه نستطيع أن نسميها «زمن العقاب»!! (ع 35-59) فلابد للخيانة من عقاب ودائماً يتبع الكسر الكبرياء، وكان عقاب الرب هو أن يُعيد الشعب إلى حالتهم الأولى التي كانوا عليها قبل احسان الرب لهم، أعادهم إلى وضع السبي والعبودية لكن ليس في أرض مصر هذه المرة بل في أرض بابل وأشور، خلع عنهم كل المجد الذي سبق وكساهم به، استرد كل العظمة التي سبق وأعطاها لهم، وهذا من صميم الحق والعدل، فمادام الاحسان لم يلقَ التقدير اللائق فمن حق المُحسن أن يسحب إحسانه!!
لكن ما يعزينا هو أن تاريخ الشعب لا ينتهي عند هذه المرحلة، بل هناك مرحلة خامسة وأخيرة تختم تاريخ معاملات الله مع شعبه، ألا وهي «زمن الغفران» (ع60-63) لا يمكن أن يفشل احسان الله، ومحبته لا تسقط أبداً!! ولذلك يعطي الله لحزقيال نبوة عن زمن آتٍ عندما يغفر الله لشعبه ويقيم لهم عهداً أبدياً لكي يعلموا أنه هو الرب الههم الذي هباته ودعوته هي بلا ندامة، وفي هذا الزمن سيذكر الشعب احسان الرب ولن يعود ينساه، وسيذكرون خيانتهم ويسلكون أمام الرب باتضاع والتزام.

من المفيد أن نرى هذه المراحل في تاريخ الشعب القديم ونتعلم منها لأنها كثيراً ما تتكرر في حياتنا كأفراد وجماعات، وللحديث بقية (يتبع)