الجمعة، 28 يوليو 2023

أحاديث من القلب

 

 

سبعة أرواح الله (45)

بقلم : فخرى كرم

قلنا إن عمل المسحة الذي يقوم به الروح القدس وجد كماله في شخص ربنا يسوع المسيح، لقد كان ربنا هو الشخص الوحيد الذي اجتمعت فيه كل «المسحات» التي رأيناها تتم بشكل جزئي ورمزي في العهد القديم ، كان دهن المسحة يستخدم لمسح الملوك والأنبياء والكهنة في العهد القديم، وفي العهد الجديد رأينا الروح يمسح ربنا المعبود ملكا ونبياً وكاهناً في آن واحد!!

ملك الأرض كلها !!

 قال الله عن المسيح بروح النبوة « أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي» (مز 6:۲) وهذا الملك ليس مقصوراً على شعب واحد أو مكان واحد بل هو يمتد إلى جميع الأمم وإلى أقاصى الأرض (مز ۸۰۲).

ولقد أخذ الرب هذا الحق في الملك بسبب قبوله الألم لأجل كل إنسان، إن ملكه مؤسس على استحقاق كونه الوحيد الذي أحب الإنسان حباً حقيقياً ، لذلك يقول الكتاب « يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت، لكي يذوق (أو لأنه ذاق) بنعمة الله الموت لأجل كل واحد » (عب ۲: ۹).

    ملوك الأرض يسودون الناس ويتسلطون عليهم ويعتبرون تسلطهم إحسانا (لو 22 : 25 ) قمة الغطرسة والكبرياء!! أما الملك الحقيقي فهو الذي تواضع ونزل تحت الجميع لكي يخدم ويفدى الجميع، لذلك استحق أن يكون ملكا على الجميع، لقد نزل إلى أقسام الأرض السفلي بمحبته وفدائه لذلك استحق أن يكون ملك الأرض كلها .

تشهد الأرض ملوكاً من كل شكل ولون، قليلون صالحون وكثيرون طالحون ولكن جميعهم زائلون، وملكهم سطحي وجزئي وسلطانهم يصب في صالحهم أكثر مما يصب في صالح شعوبهم، أما ملك سيدنا فهو الوحيد الدائم والأبدي ، لأنه الوحيد الذي يصب في صالح الإنسان ومجد الله ولأنه أيضا الوحيد المؤسس على الحق والاستقامة، وفي هذا يقول الكتاب بوضوح «وأما عن الابن : كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب مملكك» (عب 1 : 8 ).

لكنه ملك غائب !!

لكننا في الزمان الحاضر لا نرى أن كل شيء خاضع فعلا لسيادة الرب يسوع المسيح، إنه غائب عن الأرض ومازال جالساً عن يمين الله منتظراً حتى يضع أعداءه موطئاً لقدميه، لكن هذا الوضع مؤقت حتى تنتهي سنة الرب المقبولة التي فيها يتعامل الله مع الإنسان بالنعمة تاركاً له حرية الاختيار، حتي لو اختار الإنسان ألا يخضع لملك الرب وكأن لسان حاله: «لا نريد أن هذا يملك علينا» (لو 19 : 14 ) . لكن نشكر الله أنه حتى في هذا الزمان الشرير هناك عبيد أمناء لهذا الملك الغائب، يعيشون بأجسادهم تحت سلطان هذا الزمان لكن قلوبهم لا تعترف ولا تجثو إلا للملك الغائب، يعيشون بأمانة له وكأنه موجود معهم بالجسد، يعطونه سلطان الملك على كل أفكارهم وخلجات نفوسهم، يطيعون أوامره ويضعون حياتهم رهن إشارته، كلمة واحدة منه تفجر ينابيع القوة فيهم ولحظة صمت منه توقف سريان الحياة فيهم!! لأن الحياة بالنسبة لهم هي شخصه العظيم.

إنهم يعلمون أن الأرض ملكا له ولكنهم يرتضون أن يحيوا فيها غرباء مكتفين بخيمة ومذبح، وبعضهم لم يجد خيمة وعاش تائها في مغاير وشقوق الأرض، يعلمون أن سيدهم له السلطان على النيران الملتهبة والأسود الجائعة ولكنهم لا يطالبونه بأن يفعل لأجلهم شيئا لأنهم يحبونه ويخضعون له حتى وإن لم يفعل ما يجنبهم الألم!! سلطان الملوك لا يرهبهم وأموالهم لا تغريهم وبريق العالم لا يخدعهم وقسوته لا تكسرهم، إنهم موجودون في كل جيل سواء بشكل علني أو مستتر، لكن دائما هناك عبيد أمناء لهذا الملك الغائب ، وصلاتهم في الليل والنهار هي:

ليأت ملكوتك !!

هذا الملك الخفي لابد أن يستعلن، والملك الذي ارتضى أن يخفى ملكوته كل هذا الزمان لابد أن تنشق السماء يوما ويراه الجميع نازلاً راكباً على فرس أبيض ومتسربل بثوب مغموس بالدم، ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم ويرعاهم بعصا من حديد ، سيحارب ويهزم كل ملوك الأرض ولكن حربه تختلف عن كل حرب رأتها البشرية، لأنه «بالعدل يحكم ويحارب» !! وعندئذ سيرى الجميع اسمه المكتوب على ثوبه وفخذه: ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ ۱۹). يتبع.

 

السبت، 22 يوليو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (44)

بقلم : فخرى كرم

تكلمنا عن الصورة الرمزية للزيت وقلنا إنها تشير إلى أحد أعمال شخص الروح القدس ألا وهو عمل التكريس والتقديس، ففي العهد القديم كان زيت المسحة يستخدم في مسح الأماكن والأشياء والأشخاص إعلان عن تكريسهم لخدمة رب الجنود ، وهذا يقودنا لحقيقة كتابية هامة ألا وهي:

مبدأ التكريس للخدمة

          إن خدمة الله لا تتم إلا بمواد مقدسة ومكرسة للخدمة، فالله لا يقبل أن تمتد أيادي غير طاهرة لتعمل في هيكله، والقلب الذي يحب العالم ويقبل نيره على عنقه لا يمكن أن يأتي ليقدم خدمة مقبولة لرب الجنود ، فلا يمكننا أن نخدم الرب بقلب منقسم أو نكرمه بفضلات أوقاتنا وممتلكاتنا ، لأننا في الواقع لا يمكننا أن نخدم سيدين ، وعلى من يريد أن يخدم الرب أن يكون أولا ملكاً للرب.

ولقد أراد الرب أن يرسخ هذا المبدأ في نفوس الشعب القديم من خلال عدة وصايا ،  فمن بين الأبناء يكون الابن البكر مكرساً للرب، ومن بين غلة الأرض تكون الباكورة للرب، ومن بين البهائم الطاهرة تكون أفضلها ذبيحة للرب، ومن بين الأيام هناك يوما مقدسا للرب، ومن بين السنين تكون السنة السابعة سبتاً للرب، ومن بين الممتلكات يكون العشر ملكاً للرب، ومن بين الأسباط يكون سبط لاوي مخصصاً لخدمة الرب... إلخ.

لم يكن القصد الإلهي من هذه الوصايا هو تلك الأمور المادية بل بالحرى ترسيخ مبدأ التكريس للرب، تأكيد حقيقة أن للرب الأرض وملأها المسكونة والساكنين فيها، أن للرب حقاً في كل ما تمتلكه أيدينا وهو لا ينتظر ما يجود به الإنسان بل من حقه أن يقتطع لنفسه أشياء وأشخاصاً يكرسهم لخدمته، وكان المسح بالزيت المقدس هو العلامة لهذا التكريس وكل ما مسح بالزيت لم يكن ممكناً أن يستخدم في أغراض أخرى بخلاف خدمة رب الجنود ، فكما أن الرب لا يقبل في خدمته من هو غير مكرس له كذلك لا يقبل من تكرس له أن يخدم آلهة أخرى!! لذلك نقرأ أن الرب أمات عزة» لأنه مد يده إلى تابوت العهد وهو ليس مقدساً لخدمة التابوت، كما نقرأ أن الرب ضرب «عزيا » الملك بالبرص لأنه دخل إلى المقادس وهو ليس بكاهن، فالله لا يقبل الخدمة إلا ممن دعاهم هو لخدمته! !

كذلك فمن دعاه الرب لخدمته لا يمكن أن يستخدم لأغراض أخرى، فنقرأ أن المكان الذي اختاره الرب ليضع اسمه فيه مسح بالزيت وتكرس لعبادة رب الجنود ، ولذلك نرى الرب يغضب ويطرد الباعة من الهيكل قائلا «بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص » (مت 21 : 13 ) والأواني التي مسحت لخدمة الهيكل ما كان ممكناً أن تستخدم لغرض آخر، لذلك أعتبرت إهانة بالغة أن يشرب بيلشاصر الملك ورفقاؤه في أواني الهيكل خمرة وهم يسبحون آلهة أخرى، وكان لابد عندئذ أن تتدخل اليد الإلهية لتكتب قصاصاً قاسياً رداً على هذه الإهانة (دا 5 : 1 ـ 4 ) . وكذلك الأشخاص الذين يتكرسون لخدمة الرب كان الدم يوضع على آذانهم اليمنى وإبهام أيديهم اليمنى وأرجلهم اليمنى إشارة إلى موتهم عن العالم وتكريسهم فيما بعد لخدمة رب الجنود وحده .

لكن لابد هنا أن نؤكد أن كل هذه المعاني لم تصل أبدا إلى كمالها في ظل العهد القديم، لأنها كانت تتم بشكل طقسي ورمزي و مجازي لم يرتق أبدأً إلى الحقيقة التي يريدها رب الجنود ، إلى أن جاء في ملء الزمان من سمي بحق:

«المسيح» !!

 أحد أسماء ربنا هو «المسيح» فهو ليس «مسيح» الرب مثل كثيرين في العهد القديم بل هو «المسيح» الوحيد الذي قبل مسحة كاملة من الله، لقد عاش حياة التكريس الحقيقية بكل عمقها مما أشبع قلب الأب وأرضاه، حتى قيل عنه بروح النبوة «أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك» (مز 45 : 7 ) وقيل أيضا « يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه» (أع 10 : 38 ) .

لقد نسج المسيح بروح المسحة وهو بعد في بطن أمه، ونراه وهو صبي يعيش فيما لأبيه، لم تكن له حياته الخاصة بل كل سروره كان في عمل مشيئة أبيه، لم يخدم ذاته قط بل قدسها لكي يصنع شعباً مقدساً لله، إن كل المسحات الرمزية التي تمت في العهد القديم وجدت كمالها وتمامها في يسوع المسيح» (يتبع).

 

 

 


الاثنين، 17 يوليو 2023

أحاديث من القلب

 

سبعة أرواح الله (43)

بقلم : فخرى كرم

بعد ما تكلمنا عن روح الوداعة في صورة الحمامة، وروح القداسة والقضاء في صورة النار، وروح الارتواء في صورة المياه، وروح العمل الخفي في صورة الريح، نبدأ اليوم حديثنا عن صورة رمزية خامسة لروح الله ألا وهي:

الزيت

منذ فجر التاريخ المقدس وجدنا رجال الله يستخدمون الزيت للتعبير عن تكريس الأشياء وتقديسها لخدمة الله، حتى قبل مجيء الشريعة بطقوسها المحددة كان صب الزيت على الأشياء أو الأشخاص يشير لتكريسها للرب.

عندما قام يعقوب ليذهب إلى حاران ولاقاه الرب في البرية برؤيا السلم المنصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، قام يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا وصب زيتاً على رأس هذا العمود ودعا اسم ذلك المكان « بيت إيل»، كان هذا المكان من قبل بقعة جرداء لكن عندما نزل الله ليتكلم مع يعقوب في هذا المكان أصبح بيتا لله وباباً للسماء، تماما مثل الحجر الصلب الجاف عندما يصب فوقه الزيت الناعم المنعش (تك 28 : 18 ).

 وعندما أتم الله وعوده وعاد يعقوب سالماً مباركاً إلى بيت إيل وتكلم الله معه مرة أخرى هناك، عاد فنصب عموداً من حجر وسكب عليه زيتاً، ودعا اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت إيل (تك 14:35 ). إن حياتنا مثل البرية الجرداء لكن عندما يختار الله أن يقترب منا ويتكلم معنا تصير حياتنا بيتاً لله وباباً للسماء!! عندئذ يصب الزيت المنعش على القلب الحجري الجاف ويتحول إلى مذبح لعبادة رب الجنود !!

دهن المسحة

بعدما جاء الناموس صارت هذه الممارسة التلقائية التي قام بها يعقوب إحدى طقوس العبادة الرئيسية، حيث طلب الله من موسى أن يصنع دهن المسحة المقدس من قاعدة رئيسية هي زيت الزيتون مضافا إليه أفضل و أزکی العطور والأطياب بنسب محددة وثابتة (خر 30 : 22 ـ 24 ) وكان يمسح المسكن وكل ما فيه بدهن المسحة المقدس لكي يتقدس للرب، وكذلك المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها (لا 8 : 10 ، 11 ) ويصب منه على رأس هارون ورؤوس بنيه لتقديسهم للخدمة (لا ۱۲:۸) كما كان يستخدم لمسح الملوك (اصم 10 : 1 ، 16 : 1 ) ومسح الأنبياء (۱مل 19 : 16 ) وكانت هذه المسحة تشير إلى أنهم صاروا مكرسين لخدمة الرب فقط، لم يعد مسموحاً لهم أن يعيشوا حياتهم كما يريدون بل كما يريد الله، «والكاهن الأعظم الذي صب على رأسه دهن المسحة لا يكشف رأسه ولا يشق ثيابه ولا يأتي إلى نفس ميتة ولا يتنجس لأبيه أو أمه ولا يخرج من المقدس... لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه» (لا 21 : 1 ـ 12 ).

كان شاول ابن قيس يسعى في آثر أتن أبيه الضالة لكن عندما التقاه صموئيل وأخذ قنينة الدهن وصب على رأسه أصبح شاول رجلا آخر، لقد مسحه الرب على ميراثه رئيسا وأعطاه قلبة يصلح لهذه المهمة ( 1صم 10 : 1 ، 9 ) . كانت هذه المسحة تشير إلى أن الله يدعو شخصاً ما لعمل ما، والذي يدعو إلى العمل يعطي الإمكانية والكفاية للقيام به! !

روح المسحة

عندما نأتي إلى العهد الجديد نفهم أن دهن المسحة كان رمزا لأحد أعمال الروح القدس ألا وهو عمل التكريس والتقديس، والروح هو الذي ينسكب على حياتنا الجرداء فيصيرها قدساً للرب وموطئاً لقدميه، فالرسول يقول «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذى لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم؟» (۱ كو 6 : 19 ) إن سكنى الروح القدس فينا جعلت من حياتنا هيكلا مقدساً لله، لم نعد ملكا لأنفسنا ولا في مقدورنا أن نعيش كما نريد بل كما يريد الله.

والروح الذي يقدسنا و يكرسنا لمجد الله يمنحنا في ذات الوقت الإمكانية والكفاية للقيام بالعمل الذي يدعونا إليه، لذلك يقول الرسول أيضا «ليس أننا كفاة من أنفسنا بل كفايتنا من الله الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد » (۲ كو 3 : 5 ، 6 ) والرسول يوحنا يتكلم عن عمل الروح بداخلنا مشبها إياه بمسحة الدهن في العهد القديم: «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً » (۱يو 2 : 27 ) ونحن نعلم من كلمات الرب في (يو 14 : 26 ، 15 : 26 ) أن الذي يعلمنا كل شيء وهو الحق هو شخص الروح القدس نفسه، أي أن المسحة التي يتكلم عنها الرسول يوحنا هي شخص الروح، وللحديث بقية