الثلاثاء، 4 مايو 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (51)

بقلم : فخرى كرم

 

«ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته (عمره) ذراعاً واحدة» (مت6: 27)

بهذه الكلمات يكشف ربنا عن سبب دفين في قلب الإنسان يدفعه لاكتناز المال، ألا وهو رغبته في اطالت عمره على الأرض، فالإنسان يولد وبداخله دافع غريزي للاستمرار بالوجود، وبالتالي ينشأ ويتزايد بداخله خوف شديد من أي شيء وكل شيء يمكن أن يهدد هذا الوجود، هذا الدافع والخوف الغريزي هو ما دفع الإنسان للتجمع في مجتمعات وانشاء الحضارات واختراع الأسلحة التي يصارع بها قوى الطبيعة المقاومة لوجوده، هذا الخوف ذاته هو الذي دفع الانسان للإقامة في مساكن يغلقها عليه بدءاً من المغاير وشقوق الأرض ومروراً بالخيام والحجارة وانتهاءً بالأسمنت المسلح!!

 الإنسان متشبث بشدة بالاستمرار في الحياة ولو على حساب حياة الأخرين!! الانسان متعلق غريزياً بالاستمرار بالوجود على هذه الأرض سواء بوسائل مشروعة أو غير مشروعة!! هذه الدافع الغريزي يقف وراء كل اختراع وتطور جديد تشهده البشرية، ولكنه أيضاً يقف وراء كل صراع وقتال بين أفراد المجتمع الإنساني الواحد!! ولعلك لو وقفت أمام أهرامات الجيزة وتطلعت إلى حجم ومتانة بنيانها تستطيع أن تكوِّن فكرة عن مدى تشبث الإنسان بالاستمرار في الوجود، هؤلاء القدماء كانوا يرفضون فكرة أن يموتوا وينتهي ذكرهم من تحت السماء، فصنعوا ما يجعلهم خالدين في هذه الأرض محط أنظار الأجيال التالية لهم!!

ويكشف لنا الرب هنا أن أحد الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لضمان الاستمرار في الوجود هو اختزان المال، وهذا الدافع الغريزي يرجع في جذوره للإنسان البدائي القديم الذي كان يشعر أنه إذا اختزن زاداً كثيراً لاستطاع أن يغلق على نفسه ويستمر موجوداً لأيام كثيرة لا يضطر فيها للخروج ومواجهة الأخطار التي تهدد حياته!! لذلك نجد الغني الذي أخصبت كورته يبني مخازن أكثر يضع فيها خيراته الكثيرة ويمنّي نفسه بالوجود لأيام كثيرة، لكنه اكتشف متأخراً أن ما يحدد وجوده هو كلمة الله وليس ما يمتلكه من زاد وممتلكات!!

(6) المال لا يضمن الوجود ولا يطيله

كلمة الله تعلمنا أن آجالنا هي بيد الله (أي14: 5، مز31: 15) وإن امتلاك المال الكثير لا يضمن أبداً أياماً كثيرة (لو12: 15) كما أن قلة المال لا تسبب بالضرورة ضعف الحياة أو قصرها، فكم من فقراء عاشوا حياة طويلة وعريضة وعميقة بل وأغنوا كثيرين (2كو6: 10) وفي المقابل نعرف كثيرين من ذوي الأموال والأبناء والممتلكات شهدوا أن حياتهم كانت قليلة وردية (تك47: 9)!!

كان نبوخذنصر رأساً لمملكة من ذهب، أغنى مملكة نشأت على وجه الأرض، فظن أن أمواله تضمن له الحياة والدوام والعظمة، فأمرت السماء أن يفقد عقله ويعيش هائماً بلا مسكنٍ، يأكل عشب الحقل ويبتل بندى السماء، لم تُغني عنه أمواله شيئاً ولم تمنع عنه شراً، حتى أمرت السماء أن يعود إليه عقله فعلم أن السماء سلطان في مملكة الناس، وأن جدوى أيامنا وقيمتها لا يحددها ما نمتلكه من أموال بل ما تقرره السماء، ولو وضعت السماء حداً لأيامنا فلا يمكن لكل مجهوداتنا وأموالنا أن تزيد أيامنا يوماً واحداً، ولو أمرت السماء أن تمتد بنا الأيام فلا يمكن لكل القوى المعادية ولا قلة الأموال والممتلكات أن تنقص من أعمارنا يوماً واحداً!!

نحتاج أن تتعمق كلمات ربنا فينا وتنير ظلمة قلوبنا وتعطينا أن ندرك أن للسماء سلطان في حياتنا، لعل هذا الادراك يحفظنا من الانبطاح أمام سطوة المال وسلطانه على قلوب البشر، وللحديث بقية (يتبع)