الجمعة، 31 ديسمبر 2021

أحاديث من القلب

 

موعظة الجبل (59)

بقلم : فخرى كرم

«فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم

 أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء» (مت7: 12)

ها نحن قد وصلنا في دراسة موعظة الجبل إلى تلك العبارة العظيمة التي لخَّص فيها معلمنا الصالح كل وصايا الناموس والأنبياء، العبارة الجامعة المانعة التي رسم لنا فيها ربنا الطريق للبر العملي الذي يتطلع إليه قديسو العلى في كل العصور، العبارة الفارقة التي تميز بين الخير والشر أمام كل ضمير وداخل كل قلب، العبارة التي انحنت أمامها هامات عظماء الرجال فتغيرت حياتهم للأفضل وتركوا بصماتهم الصالحة على تاريخنا البشري، العبارة التي رفضها كثيرون فتجردت حياتهم من كل بر ومضوا في طريق الأرض كلها غير مأسوف عليهم، العبارة التي اصطلحنا على تسميتها «القانون الذهبي للمعاملات الإنسانية»!!

ربنا في كلمات بسيطة وسهلة يطلب منا أن نعامل الأخرين بأفضل ما نتمنى أن يعملوننا به، فاذا كنا نحب أن يقبلنا الناس ويقدروننا فلنقبلهم ونقدرهم، وإذا كنا نرغب أن يصدقنا الناس عندما نتكلم فلنصدقهم عندما يتكلمون، وإذا أردنا أن يخدمنا الناس ويقفوا بجوارنا في وقت احتياجنا فلنساعدهم ونقف بجوارهم في احتياجهم، وإذا كنا ننتظر منهم أن يسامحونا عندما نخطئ ويلتمسون لنا الأعذار فلنفعل معهم نفس الأمر عندما يخطئون في حقنا.

الرب بهذا القانون يضع لنا مقياساً يستطيع الضمير الصالح أن يتدرب به ويقيس عليه تصرفاته ويميز من خلاله ما ينبغي أن يفعله في كل المواقف، والرب يستند في هذا القانون على أساس راسخ في كل نفس إنسانية سوية وهو أن الإنسان الطبيعي السوي يحب نفسه جداً وينتظر أن يتعامل الجميع مع نفسه بأفضل اسلوب ممكن، وبالتالي ينبغي أن يطالب نفسه بأن يعامل الجميع بنفس الاسلوب، ولقد سبق ولخص ربنا كل وصايا الناموس المختصة بالتعامل بين البشر في عبارة واحدة وهي «تحب قريبك كنفسك».

دعونا نتخيل ولو لدقائق حال العالم لو ساد هذا القانون على العلاقات بين الناس جميعاً!! دعونا نتصور للحظات كم الخير والسلام الذي سيسود المجتمعات البشرية لو وجدت كلمات الرب هذه صداها في قلوب الناس!! لا شك أننا كنا سنجد أرضاً جديدة يسكن فيها البر والحق!! لكن للأسف ينبغي أن نستفيق من خيالنا وتصوراتنا سريعاً ونعود إلى واقعنا المرير الذي نعيشه في مجتمعات تموج بالعنف والقسوة والسحق للنفوس التي تحيا فيه، ماهو السبب يا ترى وراء ما وصلنا إليه؟

السبب بكل تأكيد أننا فشلنا أن نعيش هذا القانون الذهبي في علاقاتنا، ألفان من السنين لم نتعلم أن نخضع لكلمات الرب هذه ولم تجد لها صدى في قلوبنا!! ولو سألنا لماذا لم نستطع أن نحيا هذا القانون الذهبي سنجد الإجابة واضحة: أننا نحب أنفسنا أكثر مما نحب الأخرين!! الإنسان يعبد ذاته ويحبها بينما يشعر تجاه ذوات الأخرين أنهم منافسين ينبغي التخلص منهم أو إخضاعهم لفائدة ذاته!! الانسان يحب أن يعامله الجميع بالمحبة لكنه يشعر أنه غير مضطر أن يحبهم، كل واحد منا يقدر نفسه بأكثر من قدرها لكنه في نفس الوقت لا يشعر بالتزام أن يقدر الأخرين بنفس التقدير، إذا أخطأنا ننتظر من الأخرين الغفران لكن إذا أخطأ أحدهم تتحرك فينا كل نوازع الإدانة والرغبة في الإنتقام، كل واحد منا يشعر أن ذاته في كفة وكل ذوات الأخرين في كفة مقابلة، ودائماً كفته هي الأثقل!! ولكن لهذا حديث آخر (يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق